مهرجان "كان".. افتتاح فاتر لمسابقة ساخنة "3"
شتان ما بين فيلم الافتتاح العام الماضى «منتصف الليل فى باريس» للعبقرى الأمريكى وودى ألين وبين الفيلم، الأمريكى أيضا، الذى افتتح به المهرجان مساء الأربعاء وسط حشد كبير من نجوم السينما وأعلامها.
فيلم الافتتاح «مملكة بزوغ القمر» أقرب إلى أفلام الأطفال التى كانت تُصنع فى الستينات، بل إنه يستوحى أسلوب وطابع التصوير الذى كان سائدا فى الستينات.
الأهم أن الفيلم المصرى «بعد الموقعة»، ليسرى نصر الله، جاء الفيلم الثانى مباشرة بعد فيلم الافتتاح الذى يشاهده الجمهور. ولا شك أن الاختيار ليس مصادفة، فكل شىء محسوب بدقة فى هذا المهرجان. وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يبرمج القائمون على المهرجان فيلم «قسم طبرق» للمفكر الفرنسى اليهودى الصهيونى كلود برنار ليفى عن الثورة الليبية فى نهاية المهرجان، فى وقت لا يسمح لمعظم الحاضرين بمشاهدته نتيجة عرضه فى الوقت نفسه مع أفلام أكثر أهمية.
والاهتمام بالفيلم المصرى لا شك أنه ينبع من اهتمام فرنسى كبير بالثورة المصرية. ويعد فيلم يسرى نصر الله الأول الذى يتناول هذه الثورة بشكل مباشر، فى عمل روائى درامى. كما أن الفيلم، دون شك، يتمتع بطزاجة ورونق فى الكثير من جوانبه، رغم أن ملاحظات سلبية هنا أو هناك. وقد تابع حشد الحاضرين الفيلم دون أن يغادر أى منهم القاعة رغم أنه قد يبدو مرهقا للبعض بحواراته الطويلة، وكونه يتجاوز الساعتين.
البحث عن الحقيقة
أراد يسرى نصر الله العثور على حقيقة ما حدث فى موقعة الجمل أى الأحداث الدامية التى وقعت فى الثانى من فبراير 2011. وقد أطلق على فيلمه «بعد الموقعة» على أساس أن أحداثه تدور بعد أن انتهت تلك الوقائع وأصبح أحد المشاركين فيها وهو «محمود» (أو باسم سمرة) ملعونا فى محيطه بسبب وقوعه فى أيدى الثوار يوم الموقعة، الذين أوسعوه ضربا، ومدانا فى أوساط الثوار بسبب مشاركته فى جريمة الاعتداء على الثورة.
ما الذى حدث إذن، ولماذا تورط محمود فى هذا العمل الشائن، وكيف كان ممكنا أن يحدث ما يحدث، وما الثمن الذى يدفعه محمود وولداه وزوجته نتيجة الحدث السياسى أو الفردى الذى تحول إلى سياسى، وهل كان محمود يسعى بالفعل مع رفاقه إلى «قتل الثورة»، وهل قبضوا أموالا من الممولين أنصار بقاء مبارك فى الحكم.. هل كان ضحية أم مجرما، وهل يمكن غفران ما حدث فى مجتمع جديد يدعو للتصالح أو فى مجتمع ما بعد الثورة، أم أن الثورة أدت إلى تقسيم المجتمع بعد أو وحدته فى البداية؟
كل هذه التساؤلات تدور تحت جلد الصور والمشاهد المركبة التى تجمع الذاتى بالموضوعى، الفردى بالاجتماعى، التناقضات الطبقية وهل من الممكن أن تكون الثورة، كما يتردد فى الفيلم، قد خففت منها وأزالتها، وهل الحب يمكن أن يوجد بمعزل عن الظرف الاجتماعى، أم أنه كما تقول سلوى محمد على لمنة شلبى (التى تقوم بدور ريم) فى أحد المشاهد البديعة فى هذا الفيلم «ثقافة»، أى أن التعبير عن الحب عادة ما يعكس ثقافة صاحبه ومستواه. وهى تروى لها كيف أنها ارتبطت برجل فى الماضى، تصورت أنه يحبها وعندما دعاها على الغداء ذات يوم، فوجئت بأنه يطلب لها وجبة من العصافير.. وفى حين أنها ترى أن العصافير لا يجب أن تؤكل بل تترك لتغرد، يقوم هو بحشر عصفور فى فمها تعبيرا عن حبه لها!
كثير من التساؤلات تطرح على نحو أو آخر فى هذا الفيلم. ويسرى يبدو مهموما، كما كان دائما، بفكرة العلاقة مع الآخر، أى مع الأدنى طبقيا، كونه هو ابن الطبقة الأرستقراطية بتقاليدها المعروفة التى تمرد عليها منذ شبابه الأول، وسعى إلى الالتحام، ولو بطريقته الخاصة، مع الطبقة العاملة أو تصور أنه يمكنه التعبير عنها «ثقافيا وسياسيا» فى إطار انتمائه اليسارى القديم المتجدد بالطبع.
هنا تسعى «ريم» الناشطة الاجتماعية والسياسية، التى تعمل فى مشاريع منظمات المجتمع المدنى، إلى منطقة نزلة السمان فى الهرم، لتفقد أحوال الخيالة هناك الذين توقفت أعمالهم، وأصبحوا عاجزين حتى عن تقديم الطعام للخيول التى يعتمدون عليها فى الحصول على قوت يومهم.
هناك تلتقى ريم بـ«محمود».. أحد المشاركين فى موقعة الجمل، وتكتشف أنه لم يذهب للمشاركة فى الموقعة مدفوعا بأى قناعات سياسية أو نتيجة حصوله على رشوة من أصحاب الشأن، بل لأنه قيل له، ولغيره، إن الجدار «العازل» الذى شيدته الدولة وحجب حيهم عن منطقة الأهرامات المفتوحة، وأدى إلى حرمانهم من التعامل مع كثير من السياح، سيتم هدمه مكافأة لهم إذا ما اشتركوا فى ضرب الثوار فى التحرير!
مناقشات كثيرة تدور فى الفيلم بين النشطاء والثوار وغيرهم حول هذه النقطة، أى ما إذا كان الذين اشتركوا فى الهجوم على الثوار ضحايا على نحو ما، أم مجرمين. لكن الشخصية التى اختارها يسرى تميل إلى التبرئة أى إلى اعتبار «محمود» ضحية لسياسة الدولة البوليسية الشمولية فى عهد مبارك.
الطابع التسجيلى
ويتمتع الفيلم بحس تسجيلى مثير، فهناك الكثير من المشاهد التسجيلية التى جاءت من أرشيف الثورة، وهو يفتتح بمشهد موقعة الجمل فى ميدان التحرير، لكن المشهد- الذى يتكرر فيما بعد- لا نرى فيه جمالا بل خيولا فقط، وهو خطأ غريب من جانب يسرى، الذى يشرح من خلال التعليق المكتوب على الفيلم لماذا أطلق المصريون على تلك المعركة «موقعة الجمل» ولكنه يترك التفسير غامضا أمام المشاهد الأجنبى الذى لا يعلم الكثير عن تلك الموقعة أو لم يشاهد مشاركة الجمال فيها!
فى الوقت نفسه يمزج يسرى، فى الكثير من مشاهد المناقشات والمشاهد المصورة فى نزلة السمان، بين الممثلين المحترفين والشخصيات الحقيقية للرجال والنساء وينجح فى التعامل معهم جميعا واقتناص التلقائية الكامنة فى أدائهم بحيث يضفى الواقعية على الأحداث بل ويعتبر الفيلم فى حد ذاته وثيقة مذهلة عن ثورة يناير 2011.
وفى مشهد آخر يقدم لقطات تسجيلية لما عرف بأحداث ماسبيرو التى وقعت أمام مبنى التليفزيون أثناء مظاهرة لمجموعة من الأقباط، أطلق عليهم الرصاص، ويمزجها مع لقطات مصنوعة بحيث يبدو بطله محمود وكأنه يشارك فيها ويصاب بطلق نارى.
مأزق العلاقة العاطفية بين ريم ومحمود، رغم التناقض الطبقى الكبير بينهما، يتم حله بعد أن تتجه ريم إلى الاهتمام بفاطمة زوجة محمود وولديه، ولكن الفيلم هنا تحديدا ينحرف عن مساره الطبيعى لكى يدخلنا فى متاهة الحديث عن التعليم ومشكلة هروب التلاميذ من التعليم الابتدائى وتدنى مستوى العلاقة بين التلاميذ والمعلمين، وما قد يتعرض له التلميذ من اعتداءات من جانب زملائه فى الفصل دون رادع.. وكثير من القضايا الفرعية الأخرى.
ولعل ما ينقذ هذا الجزء من الفيلم تحديدا الانتقال إلى وصف آخر للعلاقة «الإقطاعية» بين أبناء نزلة السمان وبين من يعتبرونهم «كبارهم» أو «الكبار» من رجال الأعمال (الغامضة) الذين يتولون حمايتهم تماما على طريقة الأب الروحى فى المافيا، وهنا تبرز كثيرا براعة الممثل صلاح عبدالله فى دور «الحاج عبدالله» الذى يسخر البؤساء من الخيالة وغيرهم من أبناء المنطقة فى خدمته وخدمة أعماله غير المشروعة.
ويبدو اهتمام يسرى واضحا بما يعرف بالميزانسين، أى بناء اللقطة اعتمادا على التكوين وحركة الكاميرا والحركة داخل الصورة عموما.. ففى المشهد الذى نرى فيه الحاج عبدالله وهو يذهب للحديث إلى محمود مهددا إياه ويطلب منه إبعاد ريم عن المنطقة وقطع علاقته بها تماما، نراه راكبا سيارة فارهة، يطلب من سائقها أن يسير بتمهل ويفتح نافذتها ثم يتطلع إلى محمود الذى يظل يجرى على قدميه فى الخارج لكى يلحق بالسيارة حتى يتابع محدثه وسيده وهو يأمره بما يأمره به.
ويستخدم يسرى كثيرا حركة الكاميرا فى بناء علاقة وثيقة بين الشخصيات والمكان، ويبرز فى الكثير من المشاهد طبيعة المنطقة، ويركز على علاقة سكانها بالخيول، كيف يحتفلون بها على نغمات راقصة، بل وكيف ينشأ أطفالهم أيضا وهم يتعلمون ترويض الخيول وكيفية التعامل معها.. كما يستغل منطقة الأهرامات التى لها سحر خاص لدى العين الأجنبية، لكى يجسد التناقض بين كنوز الآثار ومظاهر الفقر والتدهور الاجتماعى الملحوظة فى حياة تلك الطبقة الشعبية التى تقطن المنطقة.
وينتقل يسرى نصر الله من اللقطات القريبة إلى المتوسطة والعامة، ومن الداخل إلى الخارج، وينجح، بمساهمة المصور الكبير سمير بهزان، فى اقتناص لقطات تنبض بالحياة بألوانها الصاخبة، صخب فوران الغضب والثورة.
لكن الفيلم يعانى من الاستطرادات التى كان ينبغى استبعادها، وأيضا من بعض التكرار والدوران حول الفكرة، خاصة فى الجزء الأخير.. الذى ينتهى بانضمام محمود إلى الثوار الغاضبين بعد أن ينمو وعيه الاجتماعى والسياسى تدريجيا فى ضوء تطور الأحداث من حوله.
وفى مشهد النهاية يجعله يسرى يقوم بما عجز عن القيام به طيلة عمره، أى يصعد أعلى الهرم الأكبر وكأنه يهزم الخوف والقهر والتقاعس فى داخله، ويتحرر أو ربما يعبر عن تطلع المصريين جميعا للصعود بعد عقود من الجمود!
استقبال الفيلم فى «كان» يعتبر استقبالا إيجابيا بشكل عام، فهو الدرس السينمائى الأول عن «الثورة». والفيلم الاحترافى الكبير الأول الذى يدور حول أهم حدث سياسى مصرى فى القرن الحادى والعشرين.. حتى الآن على الأقل!