فى المساجد يجرى تشكيل جانب معتبر من التفكير الجمعى للمصريين. وهذه ليست سمة جديدة أو حديثة، بل ظل المسجد -سواء من خلال دروسه وخطبه أو عبر استشارة «شيخ الجامع»- مصدراً يشكل وعى المصريين المسلمين على مدار عقود طويلة. دعك من أن جماعات الإجرام السياسى (المسماة الإسلام السياسى) نجحت فى تحويل هذه المنظومة لصالح مآربها، وهيمنت على عقول الكثيرين حتى بات الشارع مسخاً ثقافياً لا معالم مصرية له. ودعك كذلك من الضرورة التى تمليها حياتنا بحسم أمرنا وتحديد مسارنا نحو دولة مدنية حديثة حيث القانون يحكم العلاقة بين المواطنين وبعضهم البعض وبينهم وبين النظام الحاكم، أو دولة دينية حيث رجال الدين ومؤسسات دينية تدس أنوفها فى شئون الحكم والحياة، أو خليط من الاثنين حيث الدولة الماسخة فلا هى مدنية السيادة فيها للقانون، ولا هى دينية الهيمنة فيها لـ«ممثلى الله على الأرض»، أو نريدها «خلطبيطة» لا معالم محددة لها.
ونعود إلى دور المسجد فى حياة المصريين المسلمين. ولنتخيل مثلاً لو كانت موضوعات خطب صلاة الجمعة ركزت خلال عقود مضت على موضوعات مثل خطورة اللكلكة فى العمل، وشيوع مفاهيم مثل «على قد فلوسهم»، وضرب الشهادات الطبية للحصول على فرصة عمل، والبصق فى الشارع، والتحرش بالنساء، واحتقار المرأة تحت شعار مسمى الالتزام الدينى، وقبول الآخر واحترامه وعدم التدخل فى عقيدته، وقيمة التفكير النقدى، وأهمية النظافة التى لا تتوقف عند حدود الوضوء بل تمتد لعدم تحويل الشارع لمقلب قمامة ومنور العمارة لزريبة مزرية، والاستيلاء على حرم الرصيف كتمدد طبيعى للمقهى أو المطعم أو لإقامة الصلاة. لو ركز الخطباء والمشايخ و«الدعاة الجدد» طيلة سنوات حكم الرئيس الراحل السابق مبارك وكذلك الرئيس الراحل السادات على قضايا حياتية تتعلق بالأخلاق والضمير وتفاصيل الحياة الواقعية، وذلك جنباً إلى جنب مع قصص الأولين والغزوات والفتوحات والعبادات. هل كان الحال سيصل بنا إلى ما نحن عليه الآن من هوة سحيقة بين الشكل والجوهر؟!
جوهر المقصود فى هذا المقال هو موضوع خطب الجمعة، وهى للحق شهدت تحولاً جيداً فى السنوات القليلة الماضية. توحيد موضوع الخطبة مثلاً كان جيداً. ومنع الصراخ والصياح كنوع من التدين الشديد كان جيداً. ومنع بث صلوات الجهر «الفجر والمغرب والعشاء» عبر مكبرات الصوت كان جيداً، لكنه عاد فى العديد من المساجد، ويقابل المعترضون والمطالبون بخفض الصوت أو الاكتفاء بإقامة شعائر الصلاة فى داخل المسجد بدون مكبرات صوت باتهامات سابقة التعليب حيث «مش قادر تسمع كلام ربنا خمس دقائق؟» أو «لو كنا بنشغل أغانى مهرجانات ما كانش حد اعترض» وغيرها من السخافات. ولأن العقل الجمعى نشأ على مدار العقود الأربعة أو الخمسة الماضية على أن جزءاً معتبراً من التدين قائم على الصوت واستعراض العضلات الإيمانية المظهرية مع «زنق» المعترض فى خانة عدو الدين والمتدينين، فإن تعديل المسار الفكرى دون تعيين عسكرى وراء كل مواطن سيستغرق سنوات طويلة.
وإلى أن يتم تعديل المسار، أتساءل عن موضوعات الخطب هذه الآونة، هل فى الإمكان ضخ المزيد من الحداثة والمواكبة لموضوعات الخطبة؟ يعنى هل يعقل أن يظل خطيب يتحدث عن حرمانية الخمر دقائق طويلة تاركاً «الحشيش» وكأن «جونى ووكر» يسيطر على الشارع المصرى؟! موضوع خطبة الجمعة يوم أمس 8 يناير كان «إتقان العمل الذى هو سبيل تقدم الأمم»، وهذا شىء رائع. لكن تخيلت نفسى سباكاً أو نقاشاً أو ميكانيكياً شاباً كبر على قيم «لكلكة العمل»، أو موظفاً حكومياً قيل له إن العمل الحكومى يعنى عدم العمل أو فرض «رسوم» على المواطن جراء إنهاء المعاملة أو فرد أمن يعتقد أنه يعمل «متكتك» على هاتفه المحمول أو أن تدنى راتبه يعنى ألا يتحرك من مكانه، أو حتى طبيب أو مهندس أو صحفى تخرجوا فى الجامعات فى زمن «اللكلكة» حيث الغش فى الامتحان والدرس الخصوص شرط النجاح، وشراء ملزمة الدكتور طريق العبور للعام التالى، هل يحتاج أولئك لطريقة تناول مختلفة حين نتحدث عن قيمة الإتقان فى العمل الذى هو سبيل تقدم الأمم؟
أقدر جداً جداً جهود وزارة الأوقاف لتطوير وتحديث محتوى الخطاب الدينى، وهى جهود جميعنا يعلم أنها تقابَل بالكثير من المقاومة والممانعة حتى من أقرب الأقربين، لكن طعم التطور واللحاق بركب الإنسانية والأمل فى الخروج من بالوعة الظلمات التى غرقنا فيها يحمسنا ويجعلنا أكثر طمعاً فى المزيد. هل فى الإمكان الوصول لخطبة جمعة ذات محتوى مواكب للعقد الثالث من القرن الـ21 بلغة عربية سليمة لكن بسيطة ومستوحاة من طبيعة العصر وتقنياته دون صراخ أو انفعال مبالغ فيهما، تعتمد على الترغيب أكثر من الترهيب ولا تشيطن الدنيا لصالح الآخرة؟
ببساطة شديدة، نأمل فى مسجد صديق للحياة والتنمية والتطور والبشاشة والإنسانية دون افتعال أو عصبية أو صراخ.