قبل ساعات محدودة من تدشين ولاية الرئيس المنتخب «جو بايدن»، سيتم تفعيل قرار الخارجية الأمريكية بتصنيف جماعة «أنصار الله» اليمنية الحوثية كمنظمة إرهابية، ووضع ثلاثة من قياداتها على قائمة الإرهاب الدولى. هكذا أصدرت إدارة «ترامب» الراحلة القرار، وعلى الإدارة الجديدة الالتزام بالتطبيق.
وتلك بدورها مفارقة كبرى، ونظراً لأن التعاون فى المرحلة الانتقالية بين الإدارتين يبدو غائباً، فمن غير الواضح هل تم التشاور مع فريق «بايدن» أم لا؟ وأياً كان الأمر، فالقرار يعكس عدداً من الدلالات الخاصة بالداخل الأمريكى من جهة، وبالموقف المحتمل تجاه إيران وأذرعها الإقليمية من جهة أخرى، وبالضرورة المزيد من التعقيدات للمشهد اليمنى.
وحين يُتخذ قرار بمثل هذه الأهمية قبل ساعات محدودة من الانتهاء الرسمى لعهد الرئيس ترامب، فرسالته الأولى هى أن الرئيس المهزوم لم يكن مكسور الجناح حتى آخر ساعة، على عكس من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين.
لكن مضمون الرسالة ذاته يدين السياسة الخارجية الأمريكية طوال السنوات الأربع الماضية تجاه الأزمة اليمنية. فتصرّفات جماعة «أنصار الله» الحوثية لم تكن فى يوم من الأيام ساعية إلى تسوية سياسية وفق قرارات مجلس الأمن الدولى، ولم يظهر فى يوم من الأيام أنها تتجاوب مع الجهود التى بذلها المبعوثون الدوليون، وكثيراً ما وُضعت العوائق والصعوبات أمام تلك الجهود، بما فيها الجهود الأمريكية نفسها.
ولذا يبدو أن التأخير فى اتخاذ قرار مهم كهذا إلى آخر لحظة من مدة الرئاسة يهدف إلى أمرين آخرين؛ أولهما إضافة تعقيدات أكثر للجهود التى قد تقدم عليها إدارة بايدن بشأن الملف الإيرانى، ومن ضمنه الأذرع الإقليمية التى تدين بالولاء المطلق لإيران. فإذا لجأت إدارة بايدن إلى نوع من الانفتاح على طهران والتباحث حول هذه الأذرع، وهى مصنّفة إرهابية سيكون مختلفاً فى حالة كون تلك الأذرع مجرد جماعات محلية لها صلات مع إيران مذهبية وسياسية، مما يعطى طهران فرصة التنصل من أى التزامات بشأن تلك الجماعات، رغم كل الدلائل اليقينية بأنها امتداد للنفوذ الإيرانى جملة وتفصيلاً.
الأمر الثانى يتعلق بشرعية المسار العسكرى الذى تسلكه الحكومة اليمنية والتحالف بقيادة السعودية، فالحرب فى حالة مواجهة كيان إرهابى له سجل مشهود من الأعمال الإرهابية وانتهاكات حقوق الإنسان، آخرها قصف مطار عدن بالصواريخ لحظة قدوم الحكومة اليمنية، واعتبار ذلك نوعاً من الانتقام لمقتل القائد الإيرانى قاسم سليمانى، إضافة إلى حصار عدة مدن حول تعز، وممارسة عنف ممنهج تجاه المدنيين العزل فيها، يختلف قطعاً عن حالة حرب ضد من يمكن اعتبارهم مجرد جماعة متمرّدة ولها مطالب سياسية. هذا الفارق الشاسع بين الحالتين من شأنه أن يضع قيوداً معنوية وسياسية وقانونية على أى تحرك أمريكى محتمل يميل إليه الديمقراطيون والرئيس بايدن لإدانة الحرب على تلك الجماعة. لكنه من جانب آخر سيجعل تلك الحرب بمثابة الوسيلة الوحيدة لحسم الأزمة، مما سيضع ضغوطاً هائلة على المدنيين العزل، لا سيما فى المناطق التى تسيطر عليها تلك الجماعة، وسيُعطى مبررات أكبر لاستهداف أكبر عدد ممكن من قادتها، باعتبارهم أعضاء ناشطين فى جماعة إرهابية.
هذا التداخل بين الأبعاد الداخلية الأمريكية والخارجية فى قرار تصنيف جماعة «أنصار الله» منظمة إرهابية سيُلقى بظلاله على الأزمة اليمنية؛ إنسانياً وسياسياً وعسكرياً. ولا شك أن الوضع الإنسانى فى اليمن يتطلب موقفاً حاسماً لحماية اليمنيين، لا سيما فى المناطق التى تسيطر عليها جماعة «أنصار الله»، وتقديم كل صنوف الدعم الإنسانى لهم من أجل البقاء على قيد الحياة، ومع احتمالات استمرار الأعمال العسكرية، سوف تصبح المهام الإنسانية أكثر صعوبة، خاصة أن تأثيرات التصنيف الأمريكى لا تقف عند حد الجهات المصنّفة إرهابية، بل يمتد تأثيره القانونى إلى الجهات الأخرى التى تتعامل مع هؤلاء المصنّفين إرهابياً. وهو ما سيضع قيوداً على المؤسسات الإنسانية، بما فيها التابعة للأمم المتحدة، والتى تعمل على توفير حد أدنى من المساعدات الإنسانية لأكثر من 7 ملايين يمنى، خاصة من يعيشون تحت سلطة الحوثيين. ورغم التطمينات الأمريكية بأنه ستتم مراعاة هذه الجهود الإنسانية من خلال استثناءات وضوابط معينة، فالأمر ميدانياً لن يخلو من تعقيدات وصعوبات وانسحاب بعض المؤسسات الإغاثية، خشية التعرّض للعقوبات الأمريكية.
سياسياً يبدو من الصعب حالياً التفكير فى أى مبادرة سياسية لجمع أطراف الأزمة اليمنية، سواء الحكومة الشرعية أو جماعة «أنصار الله»، بصفتها طرفاً يسيطر على أجزاء من البلاد تشمل العاصمة صنعاء، تحت مظلة الأمم المتحدة، لا سيما تلك التى أعدّ لها المبعوث الدولى مارتن جريفيث بعنوان «المسار المشترك» لإحياء المباحثات بين طرفى الأزمة، كان قد حاول فى الأسابيع الماضية إقناعهما بالتوقيع على تلك المبادرة كبادرة حُسن نية متبادلة. الأمر الآن أصبح مختلفاً، فالحكومة الشرعية ستجد من الصعوبة بمكان التوقيع على مبادرة مع طرف مُصنّف إرهابياً وفق القانون الأمريكى، الذى يمتد تأثيره إلى خارج الحدود الأمريكية، كما أن «أنصار الله» الحوثية لم تكن أصلاً مهتمة بمثل هذا الجهد الدعائى، وكثيراً ما أدانت تصرفات جريفيث، خاصة اتصالاته مع الحكومة الشرعية، وسخر بعض قياداتها من زيارته إلى عدن وتفقده الدمار الذى أصاب المطار، نتيجة قصف صاروخى أودى بحياة الكثير من المدنيين.
وفى ضوء التعقيدات المؤكدة، التى ستحيط بمهمة المبعوث جريفيث، تبدو العودة إلى مجلس الأمن مسألة حتمية لوضع إطار جديد يناسب تلك التعقيدات. وهو جهد قد يتم بعد تولى الرئيس بايدن السلطة، ولكن بعد فترة من الزمن، ومشاورات مع الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن، والبعض منهم كروسيا والصين وبريطانيا ليسوا متحمسين لقرار تصنيف الجماعة الحوثية منظمة إرهابية، مما يجعل التوافق الدولى على صيغة جديدة تمهد لحل سياسى للأزمة اليمنية مسألة مؤجلة لفترة طويلة جداً، لا سيما أن الجميع ينتظر موقف «بايدن» من العلاقة مع إيران وبرامجها النووية والصاروخية وأذرعها الإقليمية.
الارتباك فى المجالين الإغاثى والسياسى الناتج عن قرار إدارة «ترامب» من شأنه أن يجعل العمليات العسكرية بديلاً أكثر كثافة ومن كل الأطراف. فى الردود الأولى لقيادات «أنصار الله» أتت التهديدات بقصف الأهداف الحساسة فى دول الجوار اليمنى، باعتبارها الرد المناسب وفقاً لهم على القرار الأمريكى وعلى ما يعتبرونه تلميحات إسرائيل الخاصة بالمتابعة الدقيقة لما يقوم به الحوثيون، وهو ما يزيد من مبررات التحالف المضاد للقيام بعمليات أكثر كثافة واتساعاً.