فى إحدى نوبات الزحام التى تنتاب شوارع القاهرة فجأة وبلا مبرر، كانت ثرثرة سائق التاكسى عن المقارنة بين القاهرة والمحافظات الأخرى، ولكنه للمفارقة كان يعدد مميزات الحياة خارج أسوار المحروسة.
بدت نبرة شجن فى صوته وهو يعبر عن عدم ارتياحه لنمط الحياة السريع فى العاصمة الذى يخلو من ملامح الإنسانية فى بعض الأحيان، مما دفعه بعد 10 سنوات من الإقامة فيها إلى اتخاذ قرار بالعودة إلى محافظة «الإسكندرية» حيث يقطن، فالراحة أهم من المال أحياناً.
كنت أستمع فى صمت، وقد انشغلت فى التفكير ما الذى سيقوله السائق الذى كان شاباً فى الثلاثينات، إذا عرف أن كلماته تلك لن تكون محل إعجاب بعض سكان القاهرة، من المتشددين لها، والذين أحياناً يلحقون القادمين من المحافظات الأخرى، للإقامة أو الدراسة فيها، مهما كان مستواهم الاجتماعى أو التعليمى بنعت «فلاحين».
أول مرة سمعت تلك الكلمة ذهبت إلى أبى باكية، أُخبره «السبة»، التى قالتها لى زميلة فى عامى الأول الجامعى، عندما علمت أننى من الأقاليم، وسألت بنوع من الاستهزاء وهل يمكنكم سماع الراديو فى محافظتكم؟!
بهدوء ممزوج بحكمة، أخبرنى أبى بأن «فلاحين» لم تكن «سبة» أبداً، فأصل مصر هى الزراعة، والفلاحة كانت مهنة عموم المصريين قبل دخول الصناعة والعمل المؤسسى بشكله الحالى، لذا فمعظم المصريين سواء أكانوا فى العاصمة، أو الصعيد، أو الدلتا ينتمى أحد أجدادهم إلى مهنة الفلاحة.
ابتلعت كلمات أبى بصمت، واعتبرتها مواساة ليس أكثر، ولكن بداخلى كانت تنمو غصة من فكرة التمييز الذى أتعرض له بين الفينة والأخرى، بسبب مكان مولدى وهو شىء ليس بيدى، ومع ذلك يشعل حاسة التنمر لدى البعض!
كان آخر حوادث التنمر ما أخبرتنى به سيدة بضرورة ذكر أننى من الفلاحين، بفعل نشأتى فى الأقاليم، حتى لو كانت تلك المحافظة فيها كل التطورات التكنولوجية المعاصرة لتلك الموجودة فى العاصمة، ففى النهاية أنا من خارج القاهرة إذن أنا فلاحة!
لم أغضب هذه المرة بل شعرت بالشفقة تجاه ذلك النوع من التنمر، واكتشفت أن غصة الحزن تلاشت وحدها، بعد أن ذقت نزراً يسيراً من حياة أهل العاصمة، فقد أدركت أنه «لا حلاوة من دون نار»، فسكان العاصمة ينعمون بالكثير من الخدمات مقارنة ببقية سكان الأقاليم بحكم «المركزية العارمة الطاغية بأمر التاريخ وبحكم الجغرافيا» بحسب جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر»، ولكنهم يفتقدون لمميزات أخرى لا تحصى، لا يتم إدراكها إلا من خلال الحياة فى الأقاليم.
ففى الأقاليم لن يوجد ذلك الركض المتواصل الذى تتحول الحياة معه إلى حلقة سباق لا يدرك الإنسان معناها، أو العصبية الماجنة التى يفجرها الزحام، تلك العمائر الأسمنتية الحزينة المتلاصقة التى تبدو كوحوش ليلية تخيف الطبيعة فتتراجع أمامها المسكينة مذعورة، والأهم تحول المرء لمجرد رقم فى سلسلة معدنية حلقاتها بشر مُحيت خصوصيتهم وتفردهم كما هو حال العاصمة، بل هناك السكينة، القدرة على الاستمتاع بمعنى الحياة، أن يلمس المرء الطبيعة بيده فتناجيه ويناجيها، أن يسلم عليك جارك بقلبه قبل يده، أن تبتسم لك البيوت وتهمس باسمك المعروف سلفاً دون خوف من وقت أو عجالة من فوات موعد أو تحسباً لزحام، ببساطة أن تحيا الحياة كإنسان.
لذا لم أعد أشعر بالخجل أو الغضب إذا قرر أحدهم أننى فلاحة، فالحقيقة السعيدة هى «أيوه أنا فلاحة».