من هذه الفوضى أن الإخوان شنّوا آنذاك حملة ضارية على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، للمصادرة على كل قوة يمكن أن تحمى مصر منهم.
ومن هذه الفوضى أن تُحَمَّل المحكمة الدستورية العليا بجرائر تشريعات خاطئة، الذنب فى عدم دستوريتها ذنب واضعيها أو المحرّضين على وضعها أو الضاغطين لفرضها.
الفوضى التى أقصدها، هى ما عانت منه مصر منذ قفز الإخوان على حركة الشباب فى يناير 2011، واستولوا على الحركة، وعلى مفاصل الدولة فى ظل الفوضى العارمة التى عمّت ولازمت الأحداث بفعل فعلة قصدوها واستغلوها!!
ففى التوقيت الذى بدا جليّاً أن شباب الانتفاضة قد أزيحوا خارج المشهد، واحتل الإخوان والسلفيون كامل المشهد، رافعين شعار الثورة والشرعية الثورية، والهدف كان الاستقواء والاستحواذ على كل مراكز القوة، للاستيلاء على الحكم والقبوع على صدر مصر والمصريين، وشيئاً فشيئاً جعل الإخوان يسبقون السلفيين بخطوات كفلت لهم الاستئثار دونهم بالفعالية.
ومن توابع هذه الفوضى أنهم تمكنوا بالضغط والتهديد من فرض نظام الانتخاب بالقوائم الحزبية المغلقة، ولها النصف، والنصف الآخر للمقاعد الفردية، مع أن المستقلين أكثر من عشرة أضعاف الحزبيين، ومن ثم كانت القسمة غير عادلة، ومن هذه الفوضى أو القسمة الضريرة على ما فيها من تمييز للحزبيين، أو إن شئت للإخوان والسلفيين، فإنه ما كاد يصدر المرسوم بقانون 108/2011 فى 19 يوليو 2011، ولا ينشر بالجريدة الرسمية إلا فى 27 سبتمبر 2011، وذلك لغز سينجلى حالاً، فما كاد يصدر المرسوم 108، إلا وصدر بهذه القسمة المنحازة لصالح الإخوان المرسوم بقانون 120/2011، والغريب اللافت أن يصدر وينشر فى 26 سبتمبر 2011، أى قبل يوم من تاريخ نشر المرسوم بقانون 108/2011 فى 27 سبتمبر 2011، مع أنه يعدله مما يستوجب أن يكون بعده لا قبله، أما التعديل فكان القضمة الثالثة للإخوان، بتعديل النّسب بين القوائم الحزبية والمقاعد الفردية إلى الثلثين للقوائم الحزبية، والثلث للمقاعد الفردية، ليكون تمييز الأحزاب أو قُل الإخوان والسلفيين تمييزاً مضاعفاً مركباً يخل إخلالاً جسيماً بمبدأ المساواة، ومع ذلك ظل الإخوان يتشكون ويملأون الدنيا صياحاً بأن المجلس العسكرى يعاديهم ويظلمهم، وعلى أثر فوضى المليونيّات التى اختفت اختفاءً له دلالته، صدر المرسوم بقانون 123/2011 الذى صدر ونُشر فى 8 أكتوبر 2011، مقدماً القضمة الرابعة للإخوان، بإلغاء ما كانت قد قرّرته المادة الخامسة من هذه المراسيم عن قصر الترشح على المقاعد الفردية على المستقلين دون الحزبيين، وفرضت جزاءً لمخالفة ذلك، ومن ثم أطلق بإلغائها الحبل على الغارب لأعضاء الأحزاب، وفى مقدمتهم الإخوان والسلفيون للترشّح على الثلثين المقرّرين للقواعد الحزبية المغلقة، وللترشّح أيضاً على الثلث المهيض الباقى للمستقلين، فى خروج صارخ على مبدأ المساواة الذى ضرب فى عدة مقاتل دعت العارفين إلى القطع بعدم دستورية ما سوف تجرى عليه انتخابات الشعب والشورى مما يعرّضهما للبطلان والحل، إلاَّ أن زهو النفوذ والغلبة كبير، وأثر الفوضى مغرٍ، فضلاً عن أنه سقيم!!
وعلى أسنة الرماح، وتحت مظلة هذه الفوضى، تشكل مجلسا الشعب والشورى، تشكيلاً مشوباً بالبطلان لعدم دستورية أساس البناء، وتحت مظلة هذه الفوضى المقرونة بزهو الغلبة ودوافع الاستقواء والاستحواذ، جرت فى برلمان مصر العريق، مشاهد مؤسفة خرجت عن التقاليد وعن مبادئ التشريع على السواء. ودعنا من التقاليد، فالحديث عنها ترف إزاء ما نحن فيه، ولنراجع ما جرى إجمالاً فى مسألة الرقابة البرلمانية ومسألة التشريع، لنرى خلطاً معيباً فوضوياً فى مباشرة الرقابة البرلمانية، بهجوم مُضَرى على القضاء وعلى النائب العام ومطالبة بعزله رغم حصانته، ومطالبات بتطهير القضاء، فى خلط يسقط المبدأ الدستورى بالفصل بين السلطات، وعدم جواز تدخل إحداهما فى شئون الأخرى، وتزامن مع ذلك هجوم مُضَرى آخر على الشرطة سَكَتَ حين استولوا على الحكم!!! فى خلط وتخليط بين مباشرة الرقابة البرلمانية وهى مباحة، بل ومطلوبة، وبين إحلال البرلمان نفسه محل السلطة التنفيذية ليدير ويتصرّف فى شئونها تحت دعاوى تطهير الشرطة وإعادة هيكلتها.
أما التشريع فقد ضربته الفوضى فى مقاتل، بسن ما سُمى قانون العزل السياسى الذى طرز تطريزاً طوى على عدة مخالفات دستورية، بغرض الحيلولة دون ترشّح أى ذى وزن بعد بدء سباق الانتخابات الرئاسية، وافتقد هذا التشريع مبدأ العمومية والتجريد، وهو مبدأ دستورى، لأنه استهدف أشخاصاً بذواتهم، وخالف مبدأ المساواة بتمييز بين هذا وذاك تبعاً للغرض المغرض من القانون، فعزل مناصب، وترك غيرها بغير علّة ظاهرة، ثم أوقع عقوبات فرضها بالقانون، خلافاً للمبدأ الدستورى، أنه لا عقوبة إلاّ بحكم قضائى، أى فى محاكمة يُتاح فيها للمتهم، كما يُتاح للمدّعى أن يُبدى ويقدم دفاعه، وليصدر حكم قضائى لا بتحكم سلطة بقبول الدعوى أو رفضها.
وكان من الفوضى الضاربة فى كل شىء، أن استُهدفت المحكمة الدستورية العليا ذاتها، وبقيت طول مدة حكمهم مستهدفة، وفى توقيت كان معروضاً عليها فيه، عدم دستورية قانون انتخابات مجلسى الشعب والشورى، وعدم دستورية قانون العزل السياسى، وبدا داخل هذه الفوضى التى استهدفت «الدستورية العليا» بدعوى إعادة تشكيلها، مع أن قضاتها غير قابلين للعزل، وتغيير رئيسها الذى لم يكن باقياً على خدمته سوى شهر يُحال بعده إلى المعاش، يُضاف إلى ذلك أن مجلس الشعب قد أعد آنذاك عدة مشروعات لقوانين أخرى قُدّر أنها سوف تعرض لزاماً لعيوبها الدستورية على المحكمة الدستورية العليا، منها إلغاء المرجعية الإسلامية الأولى للأزهر الشريف، ومنها تغيير نظام انتخاب فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بجعله للقاعدة العريضة ليصير الاختيار لهذا الموقع الرفيع كانتخابات المجالس الشعبية المحلية، نهباً للأهواء والتيارات والانحيازات والرجوات والإغراءات والوعود والجعول، ومن هذه المشروعات مشروع استهداف تحصين بعض القوانين من الرقابة الدستورية، خلافاً للمبدأ الدستورى أن المحكمة الدستورية هى التى تختص دون غيرها بالرقابة على دستورية القوانين.
ومن هذه الفوضى أن الإخوان شنّوا آنذاك حملة ضارية على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، للمصادرة على كل قوة يمكن أن تحمى مصر منهم.
ومن هذه الفوضى أن تُحَمَّل المحكمة الدستورية العليا بجرائر تشريعات خاطئة، الذنب فى عدم دستوريتها ذنب واضعيها أو المحرّضين على وضعها أو الضاغطين لفرضها، بعضها صنعته الأغلبية الإخوانية بمجلس الشعب كقانون العزل السياسى، والبعض صدر تحت ضغوط الإخوان، كالمراسيم 108، 120، 123 لسنة 2011. والأغرب أن رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب، وهو من الإخوان سلم وجاهر بأن قانون العزل السياسى غير دستورى، ومع ذلك لم يجد الإخوان بأساً من شنّ حملة ضارية على المحكمة الدستورية العليا التى لا يطالبها عاقل بأن تقضى بدستورية ما لا دستورية له!!
ومن هذه الفوضى، الأسلوب الذى قوبل به قضاء المحكمة الدستورية العليا، وكان من هذا الأسلوب غير المشروع إصدار قرار جمهورى بدعوة لانعقاد مجلس الشعب الذى قضى فى 14 يونيو 2012 بأنه غير قائم منذ تشكيله، لبطلان وعدم دستورية القانون الذى جرت انتخاباته هو ومجلس الشورى! على أساسه، فبدا فى هذه الفوضى أن القرار يسعى لإيجاد ما لا وجود له، ثم كان من الإمعان فى هذه الفوضى التى أعطت ظهرها تماماً للقانون وللمبادئ الدستورية، أن يُحال حكم المحكمة الدستورية العليا إلى محكمة النقض بدعوى أن المسألة مسألة صحة عضوية، ولم تكن كذلك، وإنما هى بطلان تشكيل المجلس برمته، بصرف النظر عن أعضائه، لما شاب تشكيله من بطلان وعدم دستورية القانون الذى شكل، وكذا مجلس الشورى، على أساسه.
ولأن الفوضى لم تصل، بمشيئة الله، إلى محكمة النقض، فإن رئيسها قد جمع الهيئة العامة للدوائر مجتمعة، وهى تشكل من رؤساء الدوائر المدنية والجنائية بالمحكمة، لتنظر فى ما أحاله مجلس الشعب إليها، فقضت قضاءها المتوقع بالرفض، وبأنه لا اختصاص لها بما أحيل إليها!