ليس للسياسة، إن أريد لها تحقيق صالح المجتمع العام، أن تعيش دون أفكار خلافية ومواقف حدية، يطرحها البعض ويدور التدافع حولها بين قوى المجتمع وشخصيات سياسية تتفاوت تقديراتها وترشد تدريجياً بما يكفل تحقيق الصالح العام. وتقاس فاعلية السياسة وحيويتها، بالنظر إلى نقاشاتها والقرارات الجوهرية بها، بمدى اختلاف وتنوع إسهامات قوى المجتمع والسياسيين.
لذا طبيعى جداً، كمثال أول، تفاوت مواقف قوى المجتمع والسياسة من الجمعية التأسيسية للدستور بين مشاركة ومشاركة بشروط ومقاطعة، فالإسلام السياسى يشارك بالكامل، والبعض من بين ممثلى القوى المدنية يشارك (أو عادوا للمشاركة بعد انسحاب) ويضع شروطاً تتعلق بالنص الدستورى ويهدد بالانسحاب ما لم تتحقق، والبعض الآخر من المدنيين يدعو لمقاطعة الجمعية والانسحاب الفورى منها نظراً لغياب التوازن وخطورة بعض المواد الدستورية التى بدأت ترشح عنها، وبعيداً عن موقفى الشخصى كسياسى، وهو فى خانة المقاطعة والانسحاب، أسجل كباحث فى السياسة أن التدافع بين المواقف الثلاثة والاستقطاب فى الرأى العام حولها ربما (فقط ربما) عاد على مصر بنص دستورى مقبول يمكن أن نعيش معه، وبالطبع قد لا يتحقق هذا الافتراض النظرى ونكون مع نص دستورى لا يليق بطموحاتنا وهو ما أخشاه، إلا أنه لو تحقق سيكون حصيلة التدافع بين المواقف المختلفة وبإسهام أصيل أيضا من المقاطعين ودعاة الانسحاب.
لذا طبيعى جداً، كمثال ثانٍ، أن تثير مسألة إلزامية السياق الدولى، متمثلاً فى المواثيق والعهود الدولية للحقوق والحريات، التى طرحتها الكثير من الجدل والتدافع على النحو الذى تابعه الرأى العام خلال الأيام الماضية.
الحصيلة الأولية للجدل والتدافع، وبعيدا عن بعض مرتزقة النقاش السياسى الذين لا ينتجون فكرة واحدة ولا همّ لهم إلا اصطياد الأفكار للتشويه وللظهور زيفاً بمظهر الأبطال أو للخروج بنفعية فاضحة من أزمات سياسية يعانون هم منها، هى بالفعل ترشيد لطرحى على مستويين، مستوى أول يتمثل فى قبول واسع النطاق بإلزامية المواثيق والعهود الدولية التى وقعت مصر عليها وضرورة عدم تجاوزها فى الدستور الجديد، ومستوى ثانٍ يتمثل فى رفض أيضاً واسع النطاق للشق المتعلق بالتواصل مع البرلمانات الدولية للضغط بأدوات مختلفة على قوى الإسلام السياسى بشأن الدستور، وكان من بين أفضل ما كتب فى هذا السياق مقالة لسيف الدين عبدالفتاح نشرتها «الأهرام» منذ يومين.
وأنا هنا أرتضى تماماً هذا الترشيد الذى أنتجه التدافع حول طرحى وأبتعد عن بعض التهور الذى شابه فيما خص دعوة البرلمانات الدولية للضغط وشبهة استدعاء الخارج المرتبطة بها.
لذا طبيعى جداً، كمثال ثالث، أن يثير الحديث عن دور للقوات المصرية فى سوريا جدلاً وتدافعاً هائلاً كما دللت الساعات القليلة الماضية. هنا أيضا رشد التدافع من الطرح بتحديد مساحة للفعل مرفوضة تماما هى التدخل العسكرى المصرى فى سوريا، ومساحات أخرى مقبولة تتمثل فى عمل مصرى لمواجهة خطر التدخل العربى وللبحث عن مخرج للشعب السورى ليس له (وكما أكدت منذ أشهر طويلة) إلى أن يزيل نظام الديكتاتور الأسد ويوقف جرائمه ضد الإنسانية.
هذا هو جوهر السياسة كتدافع حول أفكار خلافية ومواقف حدية، وترشيد يبتغى صالح المجتمع العام، ومراجعات ذاتية تفرضها، أدلل عليها بالأسطر السابقة.
وأتمنى دوماً أن أكون من بين من يقدرون عليها. وهذا هو الفارق بين سياسة تدور حول أفكار ومواقف تنفع المجتمع فى النهاية، وبين فتات السياسة الذى ينتجه مرتزقة العمل بها بعنفهم اللفظى واصطيادهم الضار للاختلاف وخلطهم غير النزيه بين الحياة الشخصية والدور العام.