خفتت نبرة الاستقطاب التى سادت المشهد السياسى والإعلامى فى أمريكا الأسابيع الماضية، حتى الكونجرس -المؤسسة الدستورية الأعلى والهيئة التشريعية فى النظام السياسى- قرر نزع مخالبه خلال استجواب المسئولين عن آلية تنفيذ قرار سحب القوات الأمريكية من أفغانستان بكل ما أحاطها من فوضى جردت أمريكا من كل مقومات القوة العظمى بشهادة كبار ساسة العالم.
أمريكا اكتفت بأدنى درجة من سقف طموحاتها التى طالما بالغت وسائل الإعلام فى تسويقها للعالم حتى انحدرت إلى مجرد تقليل درجة الخطر فى التضحية بعدد محدود من قواتها مقابل صيغة تفاوضية تضمن إبقاء الإرهاب «هناك» بين جبال تورا بورا وقندهار، أو حتى أى بقعة فى العالم.
أمريكا اعتبرت صفقتها رابحة طالما ضمنت بقاءها بمأمن من التهديد.. إذ سرعان ما تحول الهدف المعلن منذ عقود من القضاء على الإرهاب إلى إدارة تهديداته، خصوصاً أن التفاوض مع التنظيمات التكفيرية ليس بدعة جديدة على الإدارات الأمريكية المتتالية، إذ توثق الصور والتسجيلات اجتماعات قادة حركة طالبان -ومنهم أعضاء فى تنظيم القاعدة- داخل البيت الأبيض ووزارة الدفاع.. سبقتها العملية الشهيرة التى قاد خطواتها أوائل الثمانينات عضو الكونجرس شارلى ويلسون بمساعدة عضو فى وكالة المخابرات المركزية «جوست أفراكوتوس» التى أثمرت عن إقرار عملية «الإعصار» داخل الكونجرس وهو برنامج لتسليح ودعم حركة طالبان خلال الحرب السوفيتية - الأفغانية.
بعد ارتفاع سقف توقعات البعض بفضيحة جديدة لوكالة المخابرات المركزية وإدارة «بايدن» على غرار «إيران - كونترا» التى زودت بموجبها إدارة الرئيس ريجان إيران بالأسلحة مقابل إطلاق إيران سراح أمريكان محتجزين فى لبنان، خصوصاً أمام حجم وتنويع الأسلحة والطائرات التى خلفتها القوات الأمريكية فى أفغانستان.
الخطة الفوضوية لخصتها جملة تكررت كثيراً فى تغطية الإعلام الأمريكى: «العالم قد يكون له تصوره الخاص فى الحكم على الأحداث.. ونحن لنا رؤيتنا الخاصة فى أمن أمريكا ومواطنيها».
المثير للدهشة استمرار إطلاق مسئولى إدارة بايدن تصريحات إنشائية انطلاقاً من وهم كون أمريكا ما زالت تمثل قوة كبرى مؤثرة دولياً! رغم اتفاق المجتمع الدولى على انحسار هيبة التأثير الأمريكى.
الإشكالية الأهم التى تطرح نفسها هى طبيعة المسارات التى ستختارها المنطقة بعد تفكك قوى وظهور أخرى تطرح نفسها كبديل اقتصادى أو حتى أمنى.
المنطقة العربية بالتأكيد ليست بمعزل عن خطورة انخراط تنظيمات تكفيرية، مثل داعش والقاعدة، التى عاد زعيمها أيمن الظواهرى للعودة أمام أضواء الكاميرات، وغيرها من الأسماء المرتبطة بهما جذرياً رغم مزاعم الخلافات ظاهرياً، فى حروب أهلية تمتد إلى جميع أنحاء العالم ولم يتوقف انتشارها منذ 2001 عبر أيديولوجيات مختلفة. هذه التنظيمات والحركات لم تعد تقصِر نشاطها على الإرهاب الدولى، بل أصبحت تشارك فى حروب أهلية عبر غرس المجندين المحليين والمتطوعين الأجانب للعب أدوار مهمة فى النزاعات الداخلية.
فوضى المشهد فى أفغانستان دفعت الاتحاد الأوروبى للمسارعة بتأمين دوله من هجمات الإرهاب التى سبق أن طالت معظم مدن أوروبا عبر قرار تفعيل تأسيس قوة عسكرية طارئة لمواجهة التحديات الأمنية والمنتظر أن تُعلن الخطوة رسمياً خلال شهر نوفمبر المقبل.
المسار الدبلوماسى الذى انتهجته مصر خلال الأعوام الماضية يكشف بوضوح عن التقاط القيادة السياسية هذه الإشارات مبكراً، حيث بادرت بإنجاز خطوات فعلية لتأسيس واقع عربى جديد ينطلق من مبدأ المصالح المشتركة للمنطقة بعيداً عن الاعتماد المطلق على قوى محددة فى أخذ مبادرة تخطيط مستقبل المنطقة أمنياً وسياسياً.
فى المقابل، رغم كل المتغيرات التى كشفت علناً ما كان يدور خلف الأبواب المغلقة، ما زالت بعض دول المنطقة تفضل الدوران فى فلك هذه القوى انتظاراً لأى موقف إيجابى لن يأتى.. بل إن وسائل إعلامها ما زالت تسعى للاحتفاء بالتصريحات الإنشائية الصادرة عن مسئولى إدارات هذه القوى كمحاولة بائسة لاحتواء تبعات فشلهم أمام الرأى العام فى الداخل بعدما تجردوا من كل مقومات المصداقية أمام المجتمع الدولى، رغم تأكيد مسئولين توجه هذه الدول العربية لإعادة ضبط سياساتها الخارجية بعد تراجع الثقة فى ترويج وهم ارتباط أمريكا بالدول الحليفة، وتبنى البديل المنطقى الوحيد نحو خلق واقع عربى جديد قادر على مواجهة أزماته.