فى نهاية الشهر الماضى، نشر أحدهم صورة على أحد مواقع «التواصل الاجتماعى» توضح حضور عشرات الآلاف من الجماهير الشابة المنفعلة والشغوفة إحدى الحفلات «الغنائية» لـ«رابر» مصرى اسمه «ويجز»، حيث علَّق على هذا المشهد «المهيب» بقوله: «تخيل كل الناس دى متجمعين فى مكان واحد، متلاحمين ومتحمسين، وبيغنوا بأعلى صوت: (باجى وفى إيدى الرضعة عشان أغدى النونة)».
تلك هى الكلمات التى يؤديها هذا «الرابر» (مُغنى الراب)، والتى تشبه معظم المحتوى الذى يقدمه، والذى يحظى بعشرات الملايين من المشاهدات على «يوتيوب»، ويؤمِّن له شهرة ومالاً ونجومية تجاوزت العديد من نجوم الغناء المشهورين.
لقد وردتنا أغانى «الراب» من الغرب، حيث نشأت كأداة تعبير استخدمها السود فى الولايات المتحدة ليبثوا أفكارهم، ويتحدثوا عن مشاعرهم، على إيقاع موسيقى، فكانت أشبه بمنازلات الشوارع ومكايدات الأحياء المهمشة، قبل أن تتحول إلى «فن» و«إطار أداء» قائم بذاته، له نجوم وجماهيرية ضخمة وشركات إنتاج تحقق أرباحاً فائقة.
فى نهاية الشهر الماضى، طالعت برنامجاً موسيقياً يبث على «يوتيوب»، وما يميز هذا البرنامج فكرته الجديدة، التى تقوم على استضافة أحد نجوم الغناء فى ثمانينات وتسعينات القرن الفائت بصحبة أحد نجوم «الراب» المعاصرين.
فى تلك الحلقة كان حميد الشاعرى من جيل الثمانينات بصحبة مغنى راب آخر اسمه «مروان موسى»، وقد طلب إليهما مقدم الحلقة أن يتشاركا فى كلمات ولحن وغناء مقطوعة موسيقية واحدة، فى محاولة منه لاختبار فكرة التعاون بين الأجيال.
كانت المقطوعة المتولدة عن هذا الخليط المتنافر مسخاً ممجوجاً وغارقاً فى السماجة من وجهة نظرى المتواضعة، ولتقريب الأمور، فقد كانت كمن يسعى لخلط الزيت بالماء.
لست من جمهور حميد الشاعرى، لكننى أذكر أنه لفت الانتباه حين أطل على عالم الغناء بإيقاعات جديدة وقدَّم «نجوماً» بتوزيعاته الجريئة قبل ثلاثين عاماً، وقد استفز حينها نقاداً وموسيقيين تقليديين لم يتسامحوا مع اختراقاته التى خدشت ذائقتهم المحافظة.
تلك هى طبيعة الحياة وسيرورتها التى لا يمكن نقضها أو توقع سكونها، فالأجيال تتوالى، ومعها تتولد النزعات الجديدة، والأذواق تتبدل، ويقف البعض مناوئاً، ثم لا تلبث الأمور أن تستقر على أنساق جديدة، بتقاليد جديدة، ونجوم جدد.
لا تتوقف الأمور عند الدهشة التى يثيرها «ويجز» و«مروان موسى» ومن يماثلهما من مغنى «الراب» المصريين، الذين «يُركِّبون» كلمات عامية غير مكتوبة بعناية على إيقاع «المقسوم» الموسيقى المصرى، فيخاطبون نزوع الشباب إلى التمرد والاندماج مع الموسيقى المنطلقة والتعبير الجرىء الشفاف، لكنها تتعدى ذلك إلى الصداع والمجد اللذين يرسمان مشهد أغانى المهرجانات.
ففى الأسبوع الماضى، قامت نقابة المهن الموسيقية بمنع نحو 19 من مؤدى «المهرجانات» عن إحياء الحفلات بداعى «ضبط سوق الغناء»، لتندلع معركة جديدة تضع السؤال عن أغانى المهرجانات على قائمة الأولويات العمومية.
ظهرت طبقة من مؤدى «المهرجان» فى العقد الأخير قوامها صبية وشبان فى العقدين الثانى والثالث من العمر، معظمهم من مناطق شعبية، يؤدون نوعاً من الغناء الذى ازدهر فى الأفراح الشعبية، وعبر منصة «يوتيوب» وجدوا رواجاً وازدهاراً، بحيث حقق بعضهم مئات الملايين من المشاهدات.
وفى أكثر التقديرات محافظة، فإن مؤدى «المهرجانات» باتوا حقيقة ساطعة، ويحظون بجماهيرية تتخطى عشرات الملايين فى مصر وخارجها، وباتوا يتمتعون بالطلب حتى فى أكثر الأوساط رقياً على الصعيدين المالى والاجتماعى.
لا ينبغى علينا أن ننظر إلى حالتى «الراب» و«المهرجانات» باعتبارهما حالتى غناء فقط، لكنهما جزء من تعبير سياسى واجتماعى وثقافى يخص الأجيال الجديدة ويعكس ذائقتها وتطلعاتها ويترجم انتماءاتها، وعندما نرد هاتين الحالتين إلى مبحث جامع، فسيكون مبحث «الثقافة الشعبية».
ويبقى مصطلح «الثقافة الشعبية» عصياً على التعريف الجامع المانع؛ وهو أمر يُعزى إلى غناه وتنوعه بأكثر مما يُرد إلى قصور فى عمل المُنظرين، ومع ذلك فإن معناه قد لا يخرج عن مُجمع الموروث السردى، والفلكلور، والحكايات، والرقصات، وطقوس الاحتفال والحزن، والأمثال الشعبية، والأقوال المأثورة، والأفكار الشائعة، والصور والرسوم، والأشعار الشعبية الرائجة.
ولا تعبر «الثقافة الشعبية» السائدة فى مجتمع ما عن تاريخه وتنوعه وثرائه الفنى فقط، لكنها أيضاً توضح درجة تماسكه، وتعكس القيم السائدة فيه، وتبلور نظرته لذاته وللعالم، وتكشف عن عواره واختلالاته المجتمعية؛ وهى فى تباينها مع «الثقافة النخبوية»، أو مع الثقافة التى تتبناها «السلطة الاستراتيجية» عبر تحكمها فى آليات الإنتاج والتوزيع العمومية، إنما تكشف عن حجم الهوة الثقافية فى المجتمع، وقد تشير إلى أدوار مطلوبة ومُلحة فى مجال الإصلاح الثقافى.
ومن بين ما وجدته من عناصر لتلك الثقافة السائدة، سواء فى «الراب» أو «المهرجان»، غياب واضح للوحدة الموضوعية، وشيوع لعدم الاتساق، وتهشم مزرٍ للغة بلهجاتها المختلفة، وإصرار على السجع المُتكلف والقوافى المصطنعة، ودرجة من الإباحية مقلقة وغير مسوغة، ونبرات استعلاء وتجبر، ونزعة للتمييز، وفردانية تكره الجماعة وتشيطنها، وازدراء عميق لـ«الآخر».. أى «آخر»، وميل واضح للصدام واستخدام لغة العنف.
ومع ذلك، فإن هذا يعكس ذوقى الخاص، ولا أفرضه على أحد، بل على العكس تماماً ينبغى ألا نواجه ما قد تنطوى عليه تلك التعبيرات الغنائية من عوار مفترض بالتقييد والمنع، وإنما عبر محاولات جادة للاقتراب من هذا العالم وتفهمه، ثم تشجيع الفاعلين فيه على الانضواء ضمن إطار يسمح لهم بقدر من تحسين منتجهم وإصلاح ما قد يعتريه من خطل وخلل.