إن الغرض من المسار الحالى للمباحثات المصرية الإثيوبية هو استكمال دراسات آثار السد السلبية على مصر، ولكن يعترضه مماطلات إثيوبية لعدم استكمال الدراسات قبل الانتهاء من بناء السد. وليس هناك تفاوض حقيقى حول حجم السد وارتفاعه، ولا توجد هناك تفاهمات أساسية يرتضى بها الطرفان حول هذه الأزمة. إن الحوار القائم بين البلدين يشبه «حوار الطرشان»، مع اعتذارى عن أى إساءة فى هذا التعبير، فالكل يتكلم ولكن لا يستمع أى طرف للآخر. فمصر تنادى بعدم المساس بحصتها المائية، وإثيوبيا تتعهد إعلامياً بعدم الإضرار بمصر، بينما هى لا تعترف بحصة مصر المائية، فما معنى الضرر إذن. ومصر تطالب بتقليل سعة السد، وإثيوبيا ترفض ذلك وتعتبر أن هذا أمر سيادى، ومصر تقول إن هذا السد غير اقتصادى وإن الأفضل للجميع هو سد أصغر، وإثيوبيا تقول إن مشروع السد مثال نموذجى للتنمية الاقتصادية، ومصر تقول إن كهرباء السد للتصدير وليست للتنمية الإثيوبية، وإثيوبيا تقول إن السد لتوليد الكهرباء التى يحتاجها الشعب الإثيوبى. ومصر تقول إنه يجب احترام اتفاقية 1920 الحدودية التى وقعها إمبراطور إثيوبيا المستقلة، وإثيوبيا تقول إن النسخة الأمهرية للاتفاقية تختلف عن الإنجليزية ولا تلزم إثيوبيا بشىء، ومصر تقول إنه يجب احترام مبدأ الإخطار المسبق، وإثيوبيا تقول إنها لا تستأذن أحداً فى استغلال مواردها الوطنية. والخلاصة إن مصر تنادى باحترام القانون الدولى، وإثيوبيا لا تقر إلا بسيادتها المطلقة على الأنهار التى تنبع من أراضيها فى مخالفة صريحة لأعراف وقواعد القانون الدولى.
وقد ذكرت فى مقال سابق أنه إذا استمرت إثيوبيا فى بناء سد النهضة بأبعاده الضخمة، وأصرت على مد فترة دراسات السد، فعلى مصر المطالبة بوقف إنشاءات السد حتى الانتهاء من الدراسات أو الانسحاب من المباحثات الحالية. وعلى مصر اتباع الإجراءات التى نص عليها ميثاق الأمم المتحدة لحل النزاعات سلمياً سواءً عن طريق الوساطة، وقد تصلح الصين وسيطاً مناسباً فى هذه الأزمة، فهى من أكثر الدول استثماراً ووجوداً فى إثيوبيا وعلى علاقة طيبة مع طرفى النزاع. وإذا لم تفلح الوساطة فيأتى بعدها المطالبة بالتحكيم الدولى، وإذا رفضت إثيوبيا فلن يتبقى إلّا الذهاب لمجلس الأمن للمطالبة بوقف إنشاءات السد واللجوء إلى التحكيم الدولى. وقبل هذه الخطوة المهمة يجب أن تلجأ مصر أولاً إلى الجامعة العربية لاتخاذ موقف عربى موحد تجاه إثيوبيا ويلتزم به السودان، إضافة إلى تحرك إقليمى ودولى لدعم المطالب المصرية العادلة. ومن الطبيعى أن رفض مصر لسد النهضة بأبعاده الحالية، سيؤدى إلى حجب أى تمويل دولى لاستكمال بناء السد. ولكن يجب ألّا نستبعد قيام بعض القوى الدولية بمجلس الأمن بعرقلة الطلب المصرى، وكذلك احتمال نجاح إثيوبيا فى الحصول على تمويل لاستكمال بناء السد.
فإذا تم فرض السد على مصر، وهذا أمر صعب حدوثه، فمصر ليس دولة من السهل التلاعب بمقدراتها أو سلب حقوقها. وتجنباً للغة التحدى فى هذا المقال سأكتفى هنا بأقل رد فعل مصرى ممكن وهو مقاطعة كهرباء السد. ومن المفروض أن يدعم السودان هذا التوجه المصرى على ضوء التزاماته فى اتفاقية 1959، وكذلك باتفاقية الدفاع العربى المشترك. ومقاطعة مصر والسودان للكهرباء سيفقد السد جدواه وعائده الاقتصادى، وخاصة أن اختيار موقع السد بالقرب من الحدود السودانية يهدف لتصدير معظم كهربائه. وفى حالة عدم تصدير الكهرباء، فإنه لا يوجد مجال آخر لاستخدام معظم كهرباء السد. إن شبكات توزيع الكهرباء الإثيوبية لن تستطيع استيعاب أكثر من سدس القدرة الكهربية للسد والتى تبلغ 6000 ميجاوات. ونقل هذه النسبة البسيطة من كهرباء السد من خلال خطوط ضغط عالٍ إلى الداخل الإثيوبى تتكلف ما يزيد على مليار دولار. وإثيوبيا تبيع الكهرباء بسعر مدعم لمواطنيها، ولذلك فإن العائد من مبيعات الكهرباء لن يكفى حتى لتغطية مصاريف صيانة وتشغيل السد. أمّا بقية كهرباء السد فلا تستطيع الشبكة الإثيوبية استيعابها. والتوسع فى شبكة توزيع الكهرباء الإثيوبية لاستيعاب هذه الكميات الهائلة من الكهرباء، سيتطلب أكثر من ثلاثين عاماً من مد خطوط ضغط عالى لنقلها إلى الداخل وزيادة امتداد الشبكات الداخلية وباستثمارات مالية هائلة. ذلك بالإضافة أنه ليست هناك حاجة محلية حقيقية لكهرباء سد النهضة، لأن هناك سدوداً إثيوبية أخرى تم الانتهاء من بعضها، والآخر على وشك الانتهاء منها، لتوليد الكهرباء للاستخدام الداخلى وللتصدير لكينيا وجيبوتى والصومال، ومثال على ذلك سلسلة سدود جيب على نهر أومو.
من المتوقع تحت هذه المقاطعة المصرية السودانية، ألّا تقل الخسارة الإثيوبية من السد عن 6 - 7 مليارات دولار مما يؤثر على قدرة إثيوبيا فى رد القروض الداخلية والخارجية، وما لذلك من آثار سلبية على استقرار البلاد. ذلك بالإضافة إلى أن معاداة إثيوبيا لمصر سيفقدها الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تستطيع استيعاب كميات هائلة من الكهرباء سواءً للاستهلاك المحلى أو للتصدير للدول العربية والأوروبية، مما يهدد بعرقلة مخطط السدود الإثيوبية والتى تهدف إلى تصدير الكهرباء للخارج. وستؤدى المقاطعة المصرية السودانية للكهرباء إلى مشاكل عديدة فى تشغيل السد، حيث ستضطر إثيوبيا إلى إغلاق معظم فتحات مياه السد نتيجة لعدم تشغيل التوربينات، وسيؤدى ذلك إلى ارتفاع مناسيب المياه أمام السد إلى أن تخرج مياهه من مهرب الفيضان الواقع أعلى السد. وسيتحول السد وقتها إلى شلال صناعى كبير تسقط مياهه من مهرب الفيضان وعلى ارتفاع لا يقل عن مائة وثلاثين متراً وبما يجعله مقصداً سياحياً فريداً. وفى حالة حدوث فيضان عالٍ مفاجئ والسد ممتلئ بالمياه، فسوف تغمر مياه الفيضان جسم السد، مما يعرضه للانهيار.
وهناك بعض المصريين يتشككون فى مواقف الإدارة السودانية نحو مصر، وأود هنا أن أطمئنهم بأنه حتى إذا تضامنت الإدارة السودانية مع إثيوبيا وقامت باستخدام جزء من كهرباء السد، فإن ذلك لن يغير كثيراً من حقيقة الضرر الاقتصادى والسياسى الذى سوف يلحق بإثيوبيا. إن الشبكات الكهربية الداخلية فى السودان وإثيوبيا لن تستطيعا معاً استيعاب نصف إنتاج كهرباء السد، والسودان سيستغل الفرصة للحصول على سعر منخفض للكهرباء الإثيوبية، والخسائر الإثيوبية ستظل ضخمة وتتمثل فى أغلب تكاليف السد. ودعم الإدارة السودانية لإثيوبيا سيؤدى إلى معاداة صريحة مع مصر، وما لذلك من تداعيات على صعيد العلاقات الثنائية والعربية. وستطالب مصر إدارة السودان بتنفيذ ما نصت عليه اتفاقية 1959 وتحمل نصف مقدار العجز المائى الناتج عن السد. والسودان لا تستطيع تحمل مثل هذا العجز المائى، ومصر أيضاً لا تستطيع وحدها تحمل هذا العجز المائى الكبير. وسيتحول الصراع من كونه مصرياً إثيوبياً إلى مصرى سودانى، والسودان يعانى بالفعل من مشاكل هائلة ولا يريد مشاكل إضافية مع مصر وفى قضية حساسة مثل نهر النيل.
إن المحصلة النهائية للعناد والمماطلة الإثيوبية تتمثل فى خسائر اقتصادية وسياسية واجتماعية فادحة لإثيوبيا، وخسائر مائية وكهربية وعدم استقرار لمصر والسودان، وشبح لنزاعات تهدد استقرار وأمن المنطقة ككل، فهل تستمع إثيوبيا لصوت العقل قبل فوات الأوان ونبدأ معاً فى البحث عن حلول عادلة لهذه الأزمة؟