كلمة واحدة هى التى تفصل بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، وهذه هى كلمة العلم، وهذا العلم لم يقم فى ناحية من العالم دون أخرى إلا لأنه تأسس على كلمة أخرى وحيدة ألا وهى العقل.
ما أقام حضارة هناك ومنعها هنا هو العقل، وما منحها زمناً ومنعها زمناً آخر هو العقل.
وحضارتنا الإسلامية العربية قامت على هذا العقل ودون إنجازاتها العقلية العلمية ما كانت، ولا نقلت لأحد، وما اعترف بها أحد، وما ظلت مضغة فى أفواهنا نلوكها حتى اليوم ونحن قعود عن استخدام العقل والعمل به بل ومعاداته واتهام ونبذ من يُعمِله فى سائر فكره وعمله بما يتيسر.
وفى حضارتنا العربية هناك مفكرون وشعراء وفلاسفة دعوا إلى اتباع العقل والتزام برهانه، ولكن هؤلاء مهملون ومستبعدون من الدرس فى المدارس والجامعات ومن الإعلام ومن أماكن ونوافذ التأثير خوفاً على الدين وخوفاً على السلطة أو خوفاً منهما.
يقول من وقف على قبره 84 شاعراً يرثونه داعية العقل الشاعر أبى العلاء المعرى فى تفسير ذلك:
إذا قلت المحال رفعت صوتى ** وإن قلت الصحيح أطلت همسى.
ثم هو ينصحنا:
أيها الغر: إن خُصصت بعقلٍ** فاتبعه فكلُ عقلٍ نبى.
إلى هذه الدرجة رفع أبوالعلاء العقل إلى درجة النبوة وألزمنا باتباع هذا النبى العقل، ولذلك يدعونا شاكراً بإهدار ما دون العقل بعد مشاورته:
فشاور العقل واترك غيره هدراً ** فالعقل خير مُشير ضمه النادى.
ولكنه يعلم ما قد يمنع الناس من اتباع العقل:
ولا تصدق بما البرهان يبطله ** فتستفيد من التصديق تكذيباً.
ويرصد فى أبيات كثيرة له أسباب عدم اتباع العقل:
اثنان أهل الأرض.. ذو عقل بلا دين ** وآخر دين بلا عقل.
ويقول:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ** على ما كان عوّده أبوه.
أو يقول:
فى كل أمرك تقليد رضيت به ** حتى قولك ربى واحد أحد.
ثم إنه يعرج إلى ما يصنعه الدين بالعقل إذ يمارس الفتى الحجاج بالعقل حتى يتدين:
وما دام الفتى بحجى ولكن ** يعلمه التدين أقربوه.
ويكشف الذين يتمسحون ويستفيدون من الدين:
ولا تطيعن قوماً ما ديانتهم ** إلا احتيال على أخذ الإتاوات
وإنما حمل التوراة قارئها ** كسب الفوائد لا حب التلاوات
إن الشرائع ألقت فينا إحناً ** وأودعتنا أفانين العداوات.
ويأسف:
إذا كان علم الناس ليس بنافع **ولا دافع فالخسر للعلماء
قضى الله فينا بالذى هو كائن** فتم وضاعت حكمة الحكماء
ولكنه يؤكد انتصار العقل ما دام الحكيم سيتبعه ويستخدم حججه:
إذا رجع الحكيم إلى حجاه ** تهاون بالمذاهب وازدراها!
ألا يسهم أبوالعلاء وعقله فى تطوير الخطاب الدينى؟