عامل السويتش يغسّل «الزهور».. و«فردة كوتش» هى ما تبقى من جسد الطفل «المجهول»
30 عاماً قضاها داخل تلك الغرفة، لم يشهد مثيلاً لتلك اللحظات، التدافع شديد، والدموع تنهال من عينيه كالمطر، فتخالط دماء بدأت فى التجلط، أصوات الصراخ تتعالى فتهدئ من روعتها تمتمات تلج بها الألسن: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، هذيان الأمهات يرن فى أذن عم «سيد محمد» عامل السويتش فى مستشفى منفلوط الحكومى بأسيوط والمسئول فيها منذ عهد بغسل الموتى، شخص بصر الرجل -الذى فارق عامه الخمسين قبل عام- صوب تلك الأجزاء المتناثرة، حاول أن يدعو الجمع للملمتها فيما منعه جلال المشهد من النطق.
50 طفلاً، صعدوا إلى خالقهم، البراءة تختلج بالدماء، والزحام داخل ثلاجة المستشفى القابعة فى الدور الأرضى لا يُحتمل، «ترابيزة» واحدة هى ما اعتاد الرجل الصعيدى أن يغسل فوقها «الميت»، غير أن أكثر من 15 أباً يحملون أشلاء أطفالهم بعد ربع ساعة من الحادث غيرت الموقف، فبدأت الاستعانة بأسرة مرضى الطوارئ منطقياً، هناك ثلاجتان داخل المشرحة، تحمل أولاها ثلاثة أرفف وأخرى ستة، دموع لا تنقطع وعويل يرج المبنى يزلزل كيان الرجل «عمرى ما اتأثرت بمنظر الموت زى النهاردة.. دى عيال ملهاش ذنب» يسارع عم «سيد» الوقت فتتحرك يداه تلقائياً بغسل «الزهور»، فيما تصبر شفتاه امرأة مكلومة «ابنك شهيد عند ربه»، يدخل الشيخ «سيد عبدالعزيز» مهرولاً بجلبابه الأبيض لمساعدة عم سيد، فيما لا تسعفهما كثرة «القتلى»، العدد بدأ فى التزايد مما اضطر بعض الأهالى لحمل ذويهم أو بالأحرى لملمة أجزائهم المتبقية للغُسل بمعرفتهم، غير أن عين الرجل الخمسينى ذرفت بغزارة لحظة سقوط أعضاء للأطفال من أيدى آبائهم، قدم مبتورة، وفروة رأس وأجزاء من معدة هى الذكرى المتبقية من الأطفال الأبرار فوق أرضية المشرحة، عم سيد تطوع بجمع بقايا الأعضاء فى قطعة قماشية ووضعها داخل رف فى الثلاجة، فيما تجاور الأعضاء رفيقاتها، و«جثتان» لا تزالان مجهولتين لم يبق منهما سوى «فردة كوتشى أبيض فى أسود» بالقدم اليمنى لصغير لم يتعد الثامنة.