حكايات من وراء «النقاب»
حكايات من وراء «النقاب»
النقاب
مثلما اختلفوا فى تعريفه فقد اختلفوا فى استخدامه وجدواه، إنه بقعة السواد المتحركة التى سجنت المرأة فى نظر كثيرين ممن يريدون أن يتعاملوا مع الإنسان على أنه إنسان لا شبح، فيما كانت رحلة هروب لأخريات وجدن فى نظرات المجتمع لهن من الألم والحزن ما دفعهن للهروب خلفه، لينظرن إلى الحياة عبر ثُقبين صغيرين يمكناهن بالكاد من التحرك فى الطرقات، وكان وسيلة للتقرب إلى الله فى نظر البعض، لكن الأمر اختلف كثيراً مع استغلاله فى ارتكاب جرائم مختلفة ما بينها التحرش وخطف الأطفال وسرقات بالإكراه وانتهاء بتنفيذ عمليات إرهابية، رصدت «الوطن» حكايات لسيدات قررن ارتداء النقاب بعيداً عن التدين، وحكايات من واقع محاضر الشرطة عن تلك الجرائم التى ارتكبت، وعن تاريخ النقاب وفترات انتشاره التى كانت بدايتها فى القرن التاسع عشر ولأسباب مجتمعية كانت ترتديه المرأة بعيداً عن فكرة التدين إلى أن حلت فترة السبعينات ومع انتشار الجماعات الإسلامية المتشددة، ليعود فى الظهور مرة أخرى إرضاء لمشايخ وجدوه وسيلة لفرض أفكارهم على المجتمع وحجب المرأة عن عالمها بصورة أو بأخرى، لكن الأمر لم يعُد فى حجب المرأة فقط بل فى فرضها على المجتمع، إما بالترشح فى الانتخابات أو بالعمل فى مؤسسات باتت تضع معايير مختلفة فى التعامل مع العاملين فيها، مثلما حدث فى جامعة القاهرة بعد صدور قرار بمنع تدريس المنتقبات داخل الحرم الجامعى.
فى مسألة إخفاء الوجه بـ«قماشة سوداء»: تديُّن وأشياء أخرى
يختلط عليك الأمر كلما نظرت إليهن، البعض يحسب ذلك تديناً منهن لكنهن لم يتخذن ذلك القرار من أجل التقرب إلى الله بقدر ما كان إرضاءً لرغبات داخلية فى ألا يعرفهن أحد من المحيطين بهن، فاتخذن قرارهن بإسدال قماشة سوداء مثقوبة فوق وجوههن، ولم يأت قرارهن عن إيمان بما يسمى «النقاب»، لكنه جاء لأسباب مختلفة اتحدت جميعها فى «الهروب من أعين الناس»، فالبعض لجأ إليه كستار يحجب ما فيهن من أمراض أو مشكلات صحية تعرضن لها والبعض الآخر لجأن إليه هرباً من ضغوط نفسية واجتماعية عصيبة مررن بها.
«منال» لجأت إليه بعد إصابتها بالبُهاق.. و«رانيا» بعد احتراق وجهها.. و«نيفين» بعد طلاقها مرتين.. و«هالة» بحثاً عن زوج
لم يكن قرارها بارتداء النقاب نوعاً من التدين بقدر ما كان هرباً من عيون الجيران والأهل والأصحاب ونظرات الشفقة التى ترتسم على وجوههم كلما نظروا إليها ووجدوها مصابة بمرض البُهاق، ذلك المرض الذى انتشر فى بلدتها بمحافظة بنى سويف، حيث تداخلت عوامل وراثية وأخرى مناعية ليتكاثر ذلك المرض على بشرتها وبشرة العديد من بنات العائلة برغم ملامحهن الجميلة، لكن قدرها أن تصاب بذلك المرض الذى ترك أثره على أنحاء متفرقة فى جسدها منذ أن بلغت الثانية عشرة من العمر، حيث ظهرت علاماته فى جسدها من الداخل ثم انتشر مع مرور السنين على بشرة وجهها، كانت خلال تلك الرحلة تعانى من وصفات طبية عشوائية منها ما وضعته بواسطة نصائح خبراء فى التداوى بالأعشاب، ومنها ما وضعته بواسطة أطباء متخصصين فى الأمراض الجلدية، لكن أشهر تلك الوصفات استخداماً وشيوعاً بين المصابين بذلك المرض هو البقاء فى الشمس لساعات طويلة، كانت تلك رحلة يومية تقضيها منال أحمد، التى تضع بعض الكريمات على المناطق المصابة ثم تجلس لساعات طويلة وقت الذروة فى الشمس، ولكن بلدتها تنتمى لجنوب مصر وكانت الشمس حارقة، ما أدى لأن تترك هى الأخرى آثارها على جسدها، إذ صبغت بشرتها بلون أسمر بعكس طبيعتها البيضاء، لتظل «منال» وسط أفراد عائلتها مميزة بلونها الداكن وتلك البقع الخافتة التى تظهر من الحين للآخر.
وترى «منال» أن البقع تتزايد طبقاً لحالتها النفسية، فكلما شعرت بالحزن ممن حولها تزايدت تلك البقع ومساحتها وداهمتها فى كل مكان بدرجة كبيرة، لكن آخر طبيب قصدته نصحها نصيحة مختلفة بعكس تلك النصائح القديمة، إذ طلب منها أن تبتعد قدر المستطاع عن الشمس، وهو ما دفعها لارتداء النقاب حتى تبتعد عن الشمس وأعين الناس فى آن.
كانت «منال» واحدة من فتيات كثيرات قررن ارتداء الحجاب لأزمة صحية مررن بها، لكنها تؤكد أنها لم تكن تحب التعامل مع المنتقبات قبل ذلك، لكن الظروف التى مرت بها دفعتها للوقوف فى صف واحد بجانب المنتقبات اللاتى ارتدينه من أجل ما يسمينه «التدين» أو «الإيمان».
لم يختلف الوضع كثيراً مع رانيا حسن، إذ كان قرار ارتداء النقاب أمراً خارجاً عن إرادتها، فبعد أن كانت تسير كاشفة شعرها وبعيدة كل البعد عن ارتداء الحجاب وليس النقاب، قبل أن تتعرض لتلك الحادثة البشعة التى لا تزال تذكر تفاصيلها، وقتما انفجر «البوتاجاز» فى وجهها واشتعلت النيران فيها واحترق 70% من جسدها، وكانت أكثر الحروق فى وجهها، لم يترك لها الحريق مكاناً إلا وترك بصمته، باستثناء تلك المنطقة المحيطة بعينيها، وهو ما دفعها لارتداء النقاب، ورسم عينيها من أسفل النقاب بما يعيد إليها جمالها الذى فقدته.
«رانيا» عاشت مرحلة صعبة من الألم النفسى بعد الحريق، وتحكى: «الحريق أصابنى حين كنت فى ليبيا، حيث كنت فى شقتى مع أهلى الذين كانوا يعملون هناك منذ فترة بعيدة، وبعد إصابتى عدت للقاهرة لعمل فحوص طبية مطلوبة لحالتى، ولأسباب تتعلق بنسبة الحريق ودرجته بات من الصعب عودة وجهى إلى ما كان عليه، لأتخذ قراراً بعدها بضرورة ارتداء النقاب والقفازات الخاصة به، ولم يكن القرار تديناً، بقدر ما كان هروباً من وضعى الجديد، هرباً من نظرة الشفقة والعطف التى تنتاب البعض كلما شاهد وجهى، وتلك النظرات التى تجرحنى بشكل مباشر كلما اشمأز البعض من آثار الحروق التى تركت على وجهى».
وتضيف «رانيا»: «جمالى صار ماضياً أتذكره ببعض الصور التذكارية.. كان شكلى جميل قبل ما يحصلى الحرق، يمكن الحاجة الوحيدة اللى فضلت لى هى عنيا وبأرسمها وأظبطها تحت النقاب عشان أنسى الحالة اللى بقيت فيها».
لم تكن تلك هى الحالة الوحيدة التى فُرض عليها ارتداء النقاب، فقد كانت نيفين مصطفى، تلك الفتاة الريفية التى وضعتها الظروف للزواج فى سن مبكرة، ونظراً لظروف خارجة عن إرادتها وتحكمات أسرية، بات طلاقها وشيكاً بين الحين والآخر إلى أن وقع الطلاق وصارت مطلقة قبل أن تتم عامها الـ19، واضطرت للرضوخ لقرار أهلها والرجوع لبيتها بعد أقل من عام على زواجها الأول، ليدق أبوابها رجل يكبرها بـ15 عاماً ويعيد الأهل النظر فى طلب الزيجة، وفى اليوم الأخير من شهور العدة كانت ترتدى دبلة الرجل الثانى، ولظروف خاصة بصغر سنها وعدم خبرتها فى الحكم على الآخرين تزوجته دون أن يكون لها رأى مخالف لأهلها، واستمرت الزيجة الثانية لشهور بسيطة انتهت بأزمتها مع زوجته الأولى التى عاد إليها الزوج بعد زواجه من «نيفين» بأيام بسيطة، فتركت بيته وعادت إلى بيت أبيها، ولديها من الأزمات النفسية ما دفعها لارتداء النقاب هرباً من أعين الناس وتلسينهم الدائم بأنها تلك الفتاة التى فشلت فى حياتها مرتين متتاليتين قبل أن تبلغ العشرين من العمر. وتظل الفتاة الصغيرة محبوسة خلف قماشة سوداء اختارتها لنفسها لكى تهرب بها ممن يعرفها أو يراها لتجنب الحديث معها عن تلك التجارب المؤلمة التى مرت بها، وتحكى «نيفين»: «رجوعى للنقاب لم يكن من أجل التدين فى الأول، أنا لبسته هربانة من عيون الناس اللى تعرفنى، بس بعد كده حسيت إنه قربنى من ربنا أكتر وإنه مريحنى من حاجات كتير كنت بعمل حسابها قبله، مبقاش يفرق معايا شكل لبسى لأنه كله بقى شكل واحد مفيهوش اختيارات، ومبقاش يفرق معايا نظرات الناس لأن محدش مركز معايا أنا تحديداً».
«نيفين» لم تلبس النقاب بحجج نابعة من الإيمان به، وهو ما دفعها لخلعه مع الزوج الثالث، الذى بدت حياتها مستقرة معه، ولم تعد تؤلمها تلك النظرات السابقة، فقد غيرت من حياتها وتغيرت بفعل طفلة جميلة رزقها الله بها مع زوجها الثالث: «حياتى اختلفت كتير.. لأن ربنا عوضنى بزوجى الحالى، ورزقنى بطفلة خلتنى أنسى الناس ونظراتهم، وحسيت إن النقاب كان لظروف خاصة وانتهت خلاص، ورجعت حياتى طبيعية تانى».
أما هالة عبدالرحمن فقد أحبت ارتداء النقاب، لكنها فعلت ذلك بعد أن تجاوزت الثلاثين من العمر وقلّت فرصها فى الزواج، بحسب ما قال المحيطون بها فى بلدتها بمحافظة بنى سويف، وصارت تحت رحمة أقرب رجل يتقدم إليها، والذى أمرها بارتداء النقاب لإتمام الزيجة، فقررت الفتاة أن تنصاع لما يريد وتتخلص من حوارات الأهل والأصدقاء لكونها «عانس»، ولم يكن الأمر تديناً بقدر ما كان إتماماً لحلم يراه البعض بعيداً، لكنها لم تكن شغوفة به بنفس قدر المحيطين الذين باتوا يتأففون من رفضها للعرسان بما جعلها مهددة بالبقاء وحيدة باقى عمرها..
وتقول «هالة»: «اضطريت ألبس النقاب عشان الجوازة تتم.. أنا لسه فى فترة الخطوبة وخايفة أتفاجأ لو اكتشفت إنه بيجبرنى على حاجات عكس تصرفاته»..
القلق الذى بدأ يراودها بين الحين والآخر دفعها للانتظار خلف قماشة سوداء تنظر للدنيا عبر ثقبين صغيرين لكنها تنتظر اللحظة التى تعتاده فيها حتى تتكيف مع ظروفه، وتقول: «مابقيتش أعرف آكل أو أشرب فى الشغل زى الأول، بضطر أستنى زمايلى يبعدوا عن المكان اللى أنا فيه عشان أقدر أشيل النقاب وأشرب وآكل براحتى».. التنفس خلف قماشة سوداء كان أزمة أولية واجهتها «هالة» بصبر شديد وبتمرين استمر لفترات قصيرة: «ماكنتش قادرة أتنفس تحت النقاب بس حاولت أسأل صديقات ليا لابسينه وبدأت أتعود واحدة واحدة وأدرب نفسى عليه لحد ما اتعودت».