انتابنى الغضب الشديد عقب إصدار الرئيس محمد مرسى ما سماه «إعلاناً دستورياً»؛ ففضلاً عن أنه لا يملك سلطة إصدار إعلانات دستورية؛ حيث وردت سلطات رئيس الجمهورية حصراً فى المادتين 56 و57 من الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011 وليس من بين هذه السلطات إصدار الإعلانات الدستورية وقد أقسم الرئيس بالله العظيم ثلاث مرات فى ميدان التحرير وأمام المحكمة الدستورية العليا وفى جامعة القاهرة على احترام الدستور والقانون، والدستور الذى أقسم الرئيس على احترامه هو هذا الإعلان الدستورى الذى انتُخب بموجب أحكامه، وبقوته تسلم السلطة فى البلاد.. هذا من حيث مبدأ حق إصدار الإعلانات الدستورية، وقد أقر بهذا المبدأ فقهاء مصر من أساتذة القانون الدستورى، نذكر منهم الدكتور إبراهيم درويش والدكتور رأفت فودة والدكتور جابر نصار والدكتور صبرى السنوسى وكذلك هامات قضائية دستورية.
أما من ناحية موضوع الإعلان الدستورى وما ورد به من أحكام فقد وردت به أمور لا يمكن أن نأخذها مأخذ الجد؛ فقد قرر فى المادة الأولى إعادة التحقيقات والمحاكمات فى جرائم القتل والشروع فى قتل وإصابة المتظاهرين التى ارتُكبت ضد الثوار بواسطة كل من تولى منصباً سياسياً أو تنفيذياً فى ظل النظام السابق.
وهذا بالطبع أمر مستحيل؛ فلا يمكن محاكمة الشخص على ذات الفعل مرتين وإلا أصبح القضاء والقانون بلا حجية ولأهدرت حجية الأحكام، وإذا سلمنا بذلك فما المانع من إعادة المحاكمات ثلاث أو أربع أو خمس مرات؟
وقد أدركت الرئاسة هذا الأمر -بعد صدور الإعلان- فأصدرت بياناً -بعد تصريح للنائب العام الجديد- يفيد بأن المقصود بإعادة المحاكمات هو حالة ظهور أدلة جديدة!! وهل عند ظهور أدلة جديدة يحتاج الأمر لإعلان دستورى؟
ظهور أدلة جديدة يبيح محاكمات جديدة على ضوء هذه الوقائع التى تكشفت والأدلة التى ظهرت، وليس فى ذلك إعادة لمحاكمة عن وقائع صدرت فيها أحكام، إذن لم تأت المادة الأولى من الإعلان إلا لإظهار أن الرئيس ينتصر لدماء الشهداء والمصابين ليتمكن من تمرير باقى مواد الإعلان الدستورى، ويذكرنى ذلك بالتعديل الذى ورد على دستور 1971 بجعل مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع بعد أن كانت مصدراً من مصادر التشريع، وذلك لتمرير جواز انتخاب رئيس الجمهورية لـ«مدد» أخرى بدلاً من مدة أخرى.
أما المادة الثانية وما ورد بها من أن الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات السابقة الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ انتخابه وحتى نفاذ الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد تكون نهائية ونافذة بذاتها غير قابلة للطعن عليها بأى طريق وأمام أى جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراته بوقف التنفيذ أو الإلغاء وتنقضى جميع الدعاوى المتعلقة بها والمنظورة أمام أية جهة قضائية، فأقول: إن ما ورد بهذه المادة يثير الرثاء ولا أقول السخرية، يثير الرثاء على تلك العقليات التى تحيط بالرئيس والتى أوهمته بسلامة هذا الهزل القانونى والدستورى، ويثير الرثاء على الرئيس الذى صدق ذلك ووقع عليه وأصدره، ويقول المؤيدون لهذا القرار، وكذلك قالت مؤسسة الرئاسة: إن هذا أمر مؤقت لمدة شهرين. وهل غاب عن هؤلاء أن الدستور يمكن أن يرفضه الشعب فى الاستفتاء؟ وفى هذه الحالة تمتد المدة إلى أجل لا يعلمه إلا الله.
وهل غاب عن هؤلاء أنه إذا حدث مانع لرئيس الجمهورية أو خلا منصبه سيأتى رئيس جديد يتمتع بهذه الصلاحيات والسلطات بموجب هذا العبث؟ فإذا ما فرضنا جدلاً -والفرض غير الواقع- سلامة نية الرئيس مرسى فمن يضمن لنا سلامة نية الرئيس الجديد؟
ناهيك عن أن هذه المادة قد أطاحت بالسلطة القضائية وغلّت يدها عن رقابة مقررة فى الدستور الذى لا يملك الرئيس مخالفته، بل وأصدرت هذه المادة أحكاماً بانقضاء الدعاوى المنظورة أمام أية جهة قضائية، والتى تنفرد جهات القضاء بالحكم بانقضاء الدعاوى المنظورة أمامها لأسباب مختلفة، فانقضاء الدعوى لا يكون إلا بحكم قضائى، بل إن الرئيس قد صادر ومنع حق التقاضى المكفول للمواطنين، وهو من الحقوق الأساسية التى نصت عليها كل دساتير العالم وإعلان 30 مارس فى المادة 21 منه، وكذلك كل المواثيق والمعاهدات الدولية.
ويبرر المؤيدون ذلك بأن أحكام البراءة التى صدرت من المحاكم كانت سبباً فى إصدار هذه المادة، وهى حجة فاسدة؛ لأن كل أحكام البراءة صدرت من محاكم الجنايات -القضاء العادى- وما عنته هذه المادة هو بالأساس ما هو منظور أمام المحكمة الدستورية العليا ومحاكم مجلس الدولة، ولا شأن لها بأحكام البراءة أو الإدانة، وإنما هى جهات قضائية لمراقبة المشروعية.
أما ما ورد بالمادة الخامسة من أنه لا يجوز لأية جهة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور فإن المسطور فى هذه المادة قد كشف المستور من نوايا الاستيلاء على الدولة بعد اختطاف الثورة؛ فالثابت أن أغلبية مجلس الشورى الحالى من الإخوان المسلمين، والثابت أيضاً أنه بعد انسحاب جميع الأحزاب والقوى المدنية والكنيسة ونقابة الصحفيين ونقابة المحامين والمفكرين لم يتبقّ فى الجمعية إلا أنصار حزبى الحرية والعدالة والنور والأحزاب التى تسمى نفسها إسلامية، فماذا تحصن يا سيادة الرئيس؟ هل تحصن القوى المتأسلمة للاستيلاء على الدستور الذى هو ملك لكل المصريين، ومن ثم الاستيلاء على الدولة المصرية لأعوام لا يعلم مدتها إلا الله؟ وهل صدقت حقاً أنه يمكن تمرير ذلك؟
أمام ما ورد بالمادة السادسة من سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية فى اتخاذ الإجراءات والتدابير لمواجهة الأخطار التى تهدد ثورة 25 يناير أو حياة الأمة أو الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن مع ما سبق هذه المادة من مواد تحصن كل ذلك فهى سلطات تستبيح حرية المواطن وحرية الإعلام والصحافة وتعصف بالمشروعية، وأذكر جماعة الإخوان المسلمين بأننا كنا جميعاً فى المعارضة نطالب بإلغاء المادة 74 من دستور 1971 والمنقول عنها نص هذه المادة السادسة حرفياً، فماذا حدث الآن؟ كنتم تعارضون تلك المادة لأنها تخلق ديكتاتوراً وألا يخلق هذا النص ديكتاتوراً، أم أن الديكتاتور لو كان منكم فهو الصالح العادل الحكيم؟!
وقد أصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً -قبل لقاء الرئيس- ذكر فيه أن الإعلان الدستورى يمثل اعتداء غير مسبوق على السلطة القضائية، أى يفوق ما جرى فى مذبحة القضاء عام 1969، وبعد الاجتماع أصدرت الرئاسة بياناً هزيلاً -أنكره بعض أعضاء المجلس الأعلى للقضاء- ذكرت فيه أن سوء الفهم واللبس للإعلان الدستورى هما ما سببا الأزمة، فهل وصل الأمر أن تتهم مؤسسة الرئاسة أعضاء مجلس القضاء الأعلى بعدم الفهم؟ وهل جموع الشعب المصرى لم تصل مداركها لفهم المقصود من هذا الإعلان؟ إن هذا لا يعنى إلا أن مؤسسة الرئاسة تستهين بالشعب وبقضائه وأحزابه، ويعنى أيضاً أن مؤسسة الرئاسة قد احتكرت لنفسها الفهم وإدراك مصلحة الشعب الذى لم يفهم مقاصد الرئاسة.
إن الخروج الوحيد من الأزمة الراهنة هو أن يخرج بيان من مؤسسة الرئاسة -كما صدر بعد اجتماع مجلس القضاء الأعلى مع الرئيس- يقول فيه المتحدث الرسمى باسم الرئاسة: إن الرئيس كان يداعب الشعب، وما كان هذا الإعلان إلا أكبر فقرة من فقرات الكاميرا الخفية على مستوى العالم.. وهل جزاء الدعابة إلا الضحك؟
عفواً سيدى الرئيس دعابتك لم تُضحك أحداً بل أوقعت شهداء.