«عادة ما يسلك المقهور سلوك القاهر» جملة قالها رائد علم النفس الاجتماعى «ابن خلدون» منذ نحو سبعة قرون، ويقصد هنا أن العمليات النفسية المختلطة تجعل ممن تعرض للقهر والتعذيب والإهانة أن يسلك بعد حين نفس نهج من قام يوماً بإيذائه. وأيضاً يوجد فى علم النفس السياسى معادلة التوحد مع المعتدى، أى تعاطف الذى وقع عليه القهر والعدوان «المقهور» مع من قام حياله بهذا السلوك «القاهر». وقد سُمى هذا السلوك «بمتلازمة ستوكهولم» ، فهى ظاهرة تحتوى على الكثير من مشاعر التناقض، حيث يشعر مثلاً الرهائن بالتعاطف تجاه مختطفيهم بل أكثر من ذلك يدافعون عنهم وينضمون إلى أنشطتهم فى الكثير من الأحيان، ويفيد سجل المخابرات المركزية الأمريكية أن نحو 27% من الرهائن، أو المعتقلين، أو السجناء يعانون من «متلازمة ستوكهولم». وترجع وقائع تسمية هذه الظاهرة المتناقضة المشاعر بـ«متلازمة ستوكهولم» إلى عام 1977، حيث تعرض آنذاك أحد البنوك فى ستوكهولم بالسويد لهجوم نتج عنه أسر الموظفين ورواد البنك وأُخذوا رهائن لمدة 6 أيام. وعندما داهم البوليس البنك وحرر الرهائن وجد لديهم شعور بالتعاطف مع مرتكبى الحادث وحدوث نوع من التفاعل والتجاوب بين الطرفين: أحدهم يضرب، يهين، يهدد، يتحرش، ويعذب، والطرف الآخر يستلذ ويستعذب هذا السلوك القهرى. وقد استطاعت آنا فرويد ابنة «سيجموند فرويد» تفسير هذا التوحد مع سلوك المعتدى على أنه عملية دفاعية لا شعورية لحماية الذات من الأذى والبطش والتفكك، حيث يتحول الفرد من الدور السلبى إلى الدور الإيجابى للتقليل من الشعور بالقلق ولذلك نجد أن الأطفال الذين قام أبواهم بالإساءة لهم والقسوة عليهم يتبعون نفس النهج عند النضوج بل إن كثيراً من شباب عصر العولمة ممن يشاهدون التليفزيون بكل ما يحويه من مشاهد عنف وتخريب ودماء، يتطبعون بهذا السلوك المعتدى وتزداد ميولهم نحو العنف مع ازدياد رؤيتهم لهذه المشاهد.
ومن هنا كنا نتساءل كثيراً كيف لا يزال البعض يبارك النظام السابق ويقومون من أجله بتنظيم الاعتصامات والإضرابات من أجل عودة الرئيس المخلوع ونظامه بالرغم من كل ما أهدره من الحريات الشخصية، وقيامه باستباحة الاعتقالات والتعذيب وترويع الآمنين! وكثيراً ما كنا نتهمهم بأنهم يقومون بذلك نظير مبالغ مادية أو مواد مخدرة، ولكن الإجابة الأوقع هى أنهم يعانون من «متلازمة ستوكهولم»، بل إن أعضاء حماس وفتح الذين اعتقلوا وعذبوا فى سجون إسرائيل قد توحدوا مع المعتدى الإسرائيلى وسلكوا مع بعضهم البعض سلوك القاهر!
لقد توحدت إسرائيل فى محاولتها لإبادة الشعب الفلسطينى مع السلوك الذى اتبعته الولايات المتحدة الأمريكية فى إبادة شعوب الهنود الحمر، السكان الأصليين لأمريكا، لقد احتذى الإسرائيلى نهج النازى فى تعذيبه لليهود يوماً وتوحد معه ليتبع اليوم نفس النهج فى تعذيبه، وقهره، وإهانته للفلسطينيين. وأخشى ما أخشاه أن تكون فى هذا الوقت بعض التيارات الحاكمة قد توحدت هى الأخرى مع من اعتدى عليها يوماً بالاعتقال، والتعذيب، والإهانة، بأن اتبعوا طريق النظام السابق نفسه والحزب الوطنى المحلول، فالمنطق يقول إن مصر الآن فى حاجة إلى توافق كل الفئات باختلاف أطيافها وأن نتنازل عن فكرة «أنا الوحيد القادر الذى أملك القدرة على تحرير مصر». لقد توحد الكل مع الجماعة أو الفئة التى ينتمى إليها، ونسى الجميع وسط خضم الصراعات الشخصية والحزبية «مصر» فكل يفكر فى أن رأيه هو الصواب دون الإنصات للآخر على الرغم من أن الديمقراطية هى قبول الرأى الآخر وليس فرض الرأى على الآخر. إن سلوك الانفراد «التكويش» بالسلطة هو توحد مع المعتدى «النظام السابق» وهو سلوك لا شعورى، فلا يشعر الفرد أو الجماعة أنهم يقتفون أثر السابقين. إن الانفراد بالرأى والسلطة هو قمة الاستبداد، فكيف بالله تقوم ثورة للتخلص من الاستبداد، وتأتى فئة تعانى من «متلازمة ستوكهولم» لتعيدنا للوراء باتباعها السلوك الاستبدادى السابق نفسه؟!
وأخيراً يجب ألا ننسى كلمة ابن خلدون: «إن الفتن التى تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جداً فى عصور التراجع الفكرى للمجتمعات»، وهذا يحثنا على أن تكون الأولوية لمستقبل مصر للنهوض بالفكر والعلم حتى يتسنى لنا القضاء على التراجع الفكرى الذى يسببه الجهل والفقر والتعصب.
والله ولى التوفيق