كتاب لابنة مارجريت تاتشر: سنوات الألم الأخيرة فى حياة السيدة الحديدية
عن تلك اللحظات التى تهرب فيها الحقائق من عقل لم تكن تفوته شاردة ولا واردة، عن تلك الأيام التى تحولت فيها سيدة كانت تجلس يوماً على قمة العالم إلى عجوز تجاهد لتلملم شتات نفسها، عن تلك الأوقات التى كانت «مارجريت تاتشر»، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، تحارب فيها للإمساك بخيوط ذكرياتها بعد أن كانت تمسك بين يديها بكل مقاليد الحكم.. يحكى هذا الكتاب.
هو كتاب لا يعرفه كثيرون فى العالم العربى، ربما لأن معظم الكتب التى صدرت وتناولت سيرة رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة، كانت تركز على الجانب الذى يحب الناس أن يروه فى كبارهم؛ جانب السيدة الحديدية، القوية المعاندة التى كانت تعلّم خصوم بريطانيا الأدب، وتقف متجهمة أمام معارضيها لتضع سياساتها العنيفة موضع التطبيق، تلك الكتب التى تبالغ دائما فى إبراز قوة تاتشر، وتأثيرها فى تاريخ بريطانيا، أو الهجوم عليها وإظهارها فى هيئة أقرب إلى الشياطين، وكل منهما لم يقترب بمبالغاته من حقيقتها قط.
هذا الكتاب، على العكس، يحكى عن الأيام التى فقدت فيها تاتشر قدرتها على التركيز، وأصيبت فيها بمرض الخَرَف، عن توتر علاقتها بأبنائها وارتباك علاقتها بزوجها أحيانا، عن قسوة الحياة العادية على السيدة الحديدية بعد أن تركت السلطة، وغادرتها الأضواء، وصارت غير قادرة على اتخاذ قرار حول نوع طعامها بعد أن كانت قراراتها تحرك بريطانيا يمينا أو يسارا. أما مؤلفة الكتاب، فكانت أقرب الناس إلى مارجريت تاتشر؛ ابنتها كارول.[Quote_1]
تكشف قراءة كتاب ابنة تاتشر عن أمها عن جوانب أخرى لا يراها الناس للحاكم أو المسئول تحت الأضواء، وتكشف أيضاً عن الثمن الفادح الذى يدفعه السياسيون أحيانا ثمناً لدورهم، ومجدهم، والطريقة التى يمكن أن تحكم بها المرأة بلداً وتفشل أحيانا فى حكم بيتها، أو يصنع فيها الرجل من زوجته سياسية عظيمة حتى لو نال سخرية الناس، ويدارى نفسه وراء الستار.
لقد كانت العلاقة بين مارجريت تاتشر وزوجها «دينيس» هى العلاقة التى قام عليها كل مجد تاتشر السياسى والشخصى، وصفته صحيفة الإندبندنت البريطانية بأنه كان أعظم زوج لرئيسة وزراء عرفه التاريخ، على الرغم من السخرية الرهيبة التى نالها فى حياته من الصحافة البريطانية، التى تهكمت على حرصه على وضع مصالح زوجته قبل مصالحه، وابتعاده عن الأضواء بلعب الجولف والاسترخاء، قالت عنه ابنته كارول فى كتابها: «إنه كان رجلاً خجولاً، لكن الأضواء التى لاحقت زوجته فى منصبها أجبرته على الخروج من خجله، ليقوم بدوره معها على أكمل وجه»، وقالت مارجريت تاتشر عن زوجها: «لم أكن لأفعل ما فعلته لولاه، كانت نصائحه لى حادة، وانتقاداته وسخريته لاذعة، لكنه كان حساساً بما يكفى لكى يقول لى ذلك كله فيما بيننا، وليس للعالم الخارجى. كان يجعلنى أرى الأمور دائما فى إطارها الصحيح، وفى كل مرة كنت أرتكب فيها خطأ أو أخرج فيها عن شعورى كان يجعلنى أستعيد توازنى من جديد».
أما علاقة مارجريت تاتشر بأبنائها، فلم تكن بنفس الدفء؛ كان ابنها «مارك» يحتل مانشيتات الصحف بسبب عبثه وحوادثه المتكررة، لكنها لم تكن قادرة على أن تغضب منه. أما ابنتها كارول، فكانت العلاقة بينهما تتأرجح بين البرود والتجاهل، والقرب الشديد والدفء، كانت كارول معظم الوقت تحب أن تراقب أمها من بعيد، لكنها لم تكن تستمتع بالقرب منها إلى هذا الحد.
ربما لذلك كانت صدمة كارول شديدة العنف عندما اكتشفت إصابة أمها بمرض الخرف بعد خروجها من السلطة.
تروى كارول فى كتابها: «فى ذلك اليوم، كنت أجلس مع أمى فى واحدة من تلك اللحظات القليلة التى تجمع أماً بابنتها، لم تكن أمى ترضى أن أدعوها على الغداء فى أحد المطاعم الفاخرة، وكانت تصر حتى لا ترهقنى مادياً على أن أدعوها على كوب من الشاى أو القهوة. والواقع أننى كنت أتصور أن أمى لم تكن تتناول الغداء فى حياتها أصلا، وكنت أضطر للانتظار لأشهر عندما كانت رئيسة للوزراء حتى أجد لنفسى مكاناً وسط مشاغلها الدائمة، وحتى عندما كنت أراها كان من الصعب أن تكون هناك مناقشات لطيفة مع أم لا تتحدث إلا عن مشاكل العالم وأزماته طيلة الوقت».[Image_2]
وعندما بدأت كارول تتحدث مع أمها عن حرب البوسنة التى كانت تدور فى منتصف التسعينات، فوجئت بأن أمها صارت تخلط بين حرب البوسنة والحرب التى قادتها ضد الأرجنتين لاستعادة السيطرة البريطانية على جزر فوكلاند فى المحيط الأطلسى، «كانت فى الخامسة والسبعين من العمر، لكنى لم أكن أتصور أن الخرف يمكن أن يصل إليها، طيلة عمرها كانت تملك ذاكرة قوية لا يفلت منها شىء، وكنت أراها دائماً سيدة لا يمكن أن تمتد إليها يد الزمن، ولا أن تفقد شيئا من عقلها أو صورتها كسيدة حديدية».
«كانت السيدة التى تحفظ أرقام وبيانات الاقتصاد وتقولها على الملأ دون الحاجة لملاحظات تذكرها بها، السيدة التى لم تكن تضطر لتكرار المعلومة الواحدة على مسامعها مرتين - تسأل السؤال نفسه أكثر من مرة بغير وعى، وكان أسوأ ما فى مرض الخرف أنه يمكن أن يصل إليك مهما فعلت، لا دفاع أمامه ولا وقاية منه، ومن يعانون منه يبدون دائماً بمظهر طبيعى، لكنهم فى داخلهم يعيشون فى عالم آخر، لا يمكن لمن حولهم فهمه أو الدخول إليه».[Quote_2]
وتواصل كارول: «على يدها تعلمت الصبر من جديد، وعندما كانوا يقولون لى لا بد أن التعامل مع هذا الأمر شىء صعب، كنت أرد: لا أحد يمكنه أن يتخيل مدى تأثير ذلك عليها هى. كنت أسألها مثلا عما حدث عندما تناولت العشاء مع أصدقاء، فتنظر إلىّ كما لو أنها لا تعرفنى وتسأل: هل تناولت العشاء معهم؟ لذلك نصحنا الطبيب ألا تظهر كثيرا على الملأ، فالمرأة التى كانت تقود نقاشات برلمانية عاتية، صارت عاجزة عن مواصلة الدردشة العادية فى الحفلات الأسرية، وعندما كانت الحالة تزداد سوءاً كانت تنسى بداية الجملة عندما تصل إلى نهايتها».
على أن أصعب اللحظات التى ترويها كارول فى كتابها كانت عندما علمت مارجريت تاتشر بوفاة زوجها، تقول: «أمى كانت تقول دائما: إن صاحب السلطة دائما وحيد، وإن منصب رئيس الوزراء لا يجعل صاحبه يجد حوله كثيراً من الناس، وتلك هى طبيعة الأمور، لكن مع دينيس لم أكن أبداً وحيدة، يا له من رجل، وزوج، وصديق! لذلك عندما علمنا خبر وفاة أبى، بدا وكأن أمى تتمسك بإصابتها بالخرف، كما لو أنها تتعمد أن تنسى المعلومة التى نعيدها عليها مراراً وتكراراً. وفى كل مرة كانت تستوعب فيها أنها فقدت زوجها الذى ظل معها 50 عاماً كاملة، كانت تنظر إلىّ بعينين حزينتين وتسألنى بصوت خافت: هل كنا جميعاً بجواره عندما مات؟».
«لم تكن ذاكرة مارجريت تاتشر تعمل بكفاءة إلا عندما يسألها أحد عن شىء يخص أيامها عندما كانت رئيسة لوزراء بريطانيا. كانت تنسى ما الذى تناولته على الإفطار، لكنها تذكر بالتفاصيل لقاءها مع الزعيم السوفيتى ميخائيل جورباتشوف مثلا. قالت لى: ربما لا أذكر معظم تفاصيل حياتى الآن، لكننى أعلم أن التاريخ يحفظ لى مكاناً فيه. وقالت يوما ما لأحد زوارها الأمريكان: إن الناس فيما مضى كانوا يدخلون إلى عالم السياسة لأنهم يريدون أن يفعلوا شيئا، أما الآن فهم يدخلون إلى السياسة لأنهم يريدون أن يصبحوا أشخاصاً مهمين، تتركز عليهم الأضواء وتكتب عنهم الصحف، حتى لو لم يغيروا أى شىء».[Image_3]
لكن مارجريت تاتشر نفسها لم تكن قادرة على نسيان السلطة وبريقها، تروى كارول فى كتابها عن الأيام الأولى التى أعقبت خروج أمها من منصبها رئيسة وزراء بريطانيا الأولى، والوحيدة حتى اليوم، تقول: «فى أول يوم بعد خروجها من منصبها، رأيت أمى فى غرفة المعيشة تحاول أن تقرأ الصحف على الرغم من أنها فى السنوات العشر التى تولت فيها رئاسة الوزراء كانت تجد الوقت بالكاد لقراءة الصحف بهدوء صباح كل أحد، وقالت لى مفسرة: لا بد أن أتابع الأخبار، لا أريد أن أنفصل عما يحدث لمجرد خروجى من المنصب. لكنها لم تعد قادرة على الاعتياد على خروجها من السلطة بسهولة، ولأكثر من مرة كانت تشاهد أحداث أزمة ما على التليفزيون، ثم تمتد يدها غريزياً إلى الهاتف لتتصل بالناس وتبدأ إجراءات متابعتها للأزمة، قبل أن تستوعب أن الأمر الآن صار مسئولية شخص آخر، وأن على غيرها عبء إدارة الأمور».
«ظل سائقها وحراستها معها على الأقل بعد أن تركت المنصب.. سائقها صار يتجنب المرور بالقرب من مكتب رئاسة الوزراء، لأنهم فى كل مرة يمرون بالقرب منه تسأله تاتشر: لماذا لم تتجه إلى هناك؟ ثم تعود لتتذكر أنها لم تعد رئيسة للوزراء، فتصمت».
أما زوجها دينيس، فظل معها عندما تركت المنصب، كما كان متمسكا بها عندما كانت رئيسة للوزراء.
تقول كارول عن علاقة والديها: «أعتقد أن ما جعلهما يستمران معا طيلة هذه الأعوام، أن أبى كان مبهورا بقدرة أمى على أن تضع طاقتها وجهودها فى كل شىء، وكان يقع فى غرامها فى كل مرة يرى حماسها وهى تلقى خطاباتها السياسية. لكن كان لدخول أمى عالم السياسة ثمناً فادحاً، صارت حياتنا الخاصة ملكية عامة للناس، سواء أعجبنا الأمر أم لا، وخرجت للنور كل التفاصيل المعروفة وغير المعروفة عنا، وأذكر مثلا أننى علمت من الصحف أن أبى كان متزوجاً من امرأة أخرى قبل أن يتزوج أمى، ويومها قالت لى أمى: لا تفتحى الموضوع مع والدك، لن يقول لك شيئاً، كانت قصة غرام وقت الحرب وانتهت».
وتواصل: «كان أبى هو الوحيد القادر على أن يجعل أمى ترى المنطق وسط كل الأمور الجنونية التى شهدتها كرئيسة للوزراء. كانت تعانى دائما من اهتزاز يدها وانفعالها وهى فى طريقها لإلقاء خطاب ما، واعتاد والدى على أن يمسك بيدها لطمأنتها وهى فى السيارة فى طريقها لمؤتمر ما. لكنها لم تكن تعرف الراحة، ولم تكن تعترف بالانتصار. وحتى عندما كانت تلقى خطابا مؤثرا، أو تتخذ قرارا يثنى الناس عليه، كانت تعود إلى منزلها وتدور حول نفسها قلقة، وتظل تردد بحذر: والآن، ماذا سنفعل لو نجحنا؟ ماذا سيحدث لنا فى العام المقبل؟ وكان ذلك القلق ينتهى عادة عندما يهب أبى فيها صارخا: كفى يا امرأة! لقد حققت اليوم نصرا عظيما وكل ما يشغل بالك هو ما سيحدث بعد سنة؟!».[Quote_3]
ظلت مارجريت تاتشر تحيا متوترة على أعصابها، وظل زوجها يلعب دور العامل الملطف فى حياتها، تقول كارول فى كتابها: «حتى بعد سنوات من تولى أمى منصب رئاسة الوزراء، ظل المشهد التقليدى فى غرفة المعيشة قبل إلقاء أمى لخطاب ما كالتالى: أمى جاهزة قبل موعد تحركها بربع ساعة، ممسكة بخطابها فى يد وبحقيبتها فى اليد الأخرى، وتسألنى: هل يفهم أبوك أننا سنتحرك بعد ربع ساعة؟ وأقول لها: من المؤكد أنه يعرف. ثم يظهر أبى قبل الموعد بخمس دقائق، ويصب لنفسه كأساً من مشروبه المفضل، وعندما تذكره أمى بأنهم سيتحركون بعد خمس دقائق يقول: أعرف، دعينا نسترخِ قليلا! ثم يصب أكواباً أخرى لمساعدى أمى المتوترين بسببها قبل أن يتحركوا».
وتروى كارول عن أحد الخطابات التى أرسلها إليها والدها، ويصف فيها تعامل أمها خلال رئاستها للوزراء، قال: «الصحافة تصف والدتك بأنها تتصرف بديكتاتورية، أعتقد أن هذا غير منصف بحقها، لقد شعرتْ بجرح عميق من الوصف، وحاولت أن أقنعها بتجاهل الأمر، وأن ليس كل الناس أذكياء مثلها، ولا قادرين على التفكير السريع كما تفعل، لكنها لا تقتنع. ولو تركنا العمل جانبا، تظل مشكلة والدتك الأساسية هى أنها غير قادرة أبدا على الاسترخاء، ومهما حاولت أن تستريح فأفضل ما يمكن الوصول إليه هو أن تعمل فقط 90% من الوقت».
وفى أواخر عهد تاتشر، تلقى زوجها خطاباً من رجل أمريكى، تنوى زوجته الترشح لمنصب سياسى فى واشنطن على طريقة تاتشر، ويسأله عن الطريقة اللائقة التى ينبغى أن يتعامل بها زوج وأبناء السياسيين، حتى لا يجلبوا الحرج على أهلهم ممن يحتلون مراكز سلطة، فكتب له دينيس تاتشر وصفة صالحة لعائلات السياسيين فى كل زمان ومكان، وأوردتها كارول فى كتابها، قال له: «سيدى، كن حريصاً على ألا تتحدث للصحافة أبدا، لا الصحف الصغيرة ولا الصحف الكبرى. ليس مطلوباً منك غير أن تبتسم فى وجه أهل الإعلام وتقول لهم بلطف: صباح الخير. من الأفضل أن تبقى فمك مغلقاً حتى لو تصوروا أنك أبله، بدلا من أن تتكلم وتثبت لهم أنك أبله فعلا! ولا تخاطبهم بسخافة، أو تطالبهم أن يبتعدوا عنك، لأنهم سيلاحقونك أكثر وقتها. وأرجوك، لا تظهر أبدا على التليفزيون، لأنك ستجد نفسك فى قلب كارثة دون أن تفهم لماذا أو كيف.
ثانياً: عندما يطلب منك إلقاء خطاب، لا تجعل مدته تزيد على أربع دقائق تحت أى ظرف، وحاول أن تعد كلمتك قبلها بوقت كافٍ، ولا تترك مجالا للارتجال، لأن الارتجال سيفتح المجال لاصطياد الأخطاء، وساعتها ستجد أن النتيجة النهائية أن الصحافة حولت الخطأ الذى وقعت فيه إلى حدث، ونسيت كل ما كنت تتحدث عنه.
ثالثاً: عندما يقترب منك أصحاب الشكاوى، حاملين مطالبهم التى يريدون منك أن تنقلها لزوجتك صاحبة السلطة، وعندما يقترب منك من يريدون التقرب منها من خلالك باقتراحاتهم وأفكارهم - استمع إليهم جميعا بانتباه تام، ثم قل لهم: سأنقل إليها اقتراحاتكم الممتازة بأسرع ما يمكن. ثم انسَ تماما كل ما قالوه لك.
وأخيراً: لا تحاول أنت، ولا أحد أفراد أسرتك، لأى سبب، أن تحتك بأحد أفراد الأمن، ولا أن تواجه السلطات، ولا أن تتحدى الجهات القانونية أو الجنائية فى بلادك، لأن نتائج هذا الأمر، مهما فعلت، ومهما كان منصب زوجتك، ستكون وخيمة عليك وعلى زوجتك وعلى أهلك كلهم».