عندما أمر المولى عز وجل نبيه «إبراهيم» بذبح ابنه «إسماعيل» وصف هذه المحنة بقوله تعالى: «إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ» (سورة الصافات- الآية 106)، أى إن هذا هو الاختبار الواضح الذى يقطع الشك باليقين. ويحكى القرآن الكريم أن نبى الله «إبراهيم» تعرض لابتلاءات واختبارات متنوعة، من بينها مخاصمة ومعاداة أبيه عابد الأصنام، وتربص قومه به إلى حد أن أوقدوا له ناراً عظيمة ووضعوه على المنجنيق (وهى آلة قديمة كانت تستخدم فى قذف الحجارة الضخمة)، وقذفوا به فى النار، فجعلها الله تعالى برداً وسلاماً عليه، ثم تعرض لابتلاء مواجهة الحاكم: «النمرود». كل تلك الابتلاءات لم تعدل فى نظر الخالق الابتلاء الذى تعرض له «إبراهيم» حين أمره الله بذبح ابنه. فقد أنجبه فى كبره، بعد أن تجاوز الستين من عمره، فتعلق به تعلقاً شديداً. وبالتالى كان بلاء «إبراهيم» فيه عظيماً حين أمره الله بأن يذبحه بيديه.
فكرة «البلاء المبين».. أجدها تحاصر تفكيرى باستمرار، كلما هممت بتناول «أوضاع الإخوان» بعد ثورة 25 يناير. فقد امتطت الجماعة صهوة «المنجنيق» وقررت أن تلقى بنفسها فى نار الابتلاء والبلاء المبين، حين وضعت «الفكرة» التى تأسست عليها على المحك، وهى الفكرة التى يلخصها شعار «الإسلام هو الحل». لقد تعرضت الجماعة قبل ابتلاء «الفكرة» لصنوف شتى من الابتلاءات، كانت تصب جميعها فى إطار «ابتلاء التنظيم»، اغتيل مؤسسها ومرشدها الأول الأستاذ «حسن البنا» عام 1949، وطورد أعضاؤها أواخر عهد الملكية، وعندما قامت ثورة يوليو 1952، كانت الجماعة «الظهير الشعبى» للعسكر، لكنها شاءت أن تنافسهم على التهام كعكة الحكم، فلم يمكنوها من ذلك، وقام عبدالناصر باصطياد الإخوان عام 1954، فتم تعليق بعض قادتها على أعواد المشانق، وحكم بالسجن على آخرين، وحصدت الاعتقالات الآلاف من أعضائها، وتكرر المشهد نفسه عام 1965، مع ظهور تنظيم الأستاذ «سيد قطب»، ورغم أن الرئيس «السادات» سلك مسلكاً مختلفاً مع الإخوان، فإن شهر العسل الذى نشأ بينه وبينها لم يدم طويلاً، فسرعان ما انقلب عليهم وانقلبوا عليه، فنكّل بهم فى سبتمبر 1981، ثم حدّث ولا حرج عن أيام «المخلوع» الذى نصب لهم المحاكم العسكرية مراراً وتكراراً.
كل هذه الضربات والابتلاءات التى تم توجيهها إلى جماعة الإخوان على مستوى «التنظيم» لم تفتّ فى عضدها أو تضعفها، بل زادتها قوة، ووسعت من دائرة التعاطف الشعبى معها، وأظهرتها طيلة السنوات الماضية، وكأنها الخصم الألد لـ«المخلوع» ومن سبقه، الأمر الذى دفع المصريين إلى اختيارهم كبديل له بعد أن أطاحت به ثورة يناير. فرح الإخوان بالسلطة، وانطلقت جماعتهم وحزبهم ورئيسهم يمكّنون لأنفسهم فى كل اتجاه، وتناسوا فى غمرة اللهث وراء السلطة، أن الناس تراقب أداءهم فى الحكم بدقة، وتنتظر منهم تفعيل الحلول السحرية للمشكلات، تلك الحلول التى تاجر الإخوان سنين بها، وبنوا شعبيتهم عليها، وما أكثر ما اشتكوا من رفض مشروعهم الإسلامى من بعض المصريين «أعداء أنفسهم»، رغم أنه يمتلك حلولاً لكل المشكلات. الناس الآن تسأل أين الحلول التى وعدتمونا بها، أين جبال الذهب وأنهار العسل المصفى، بل أين العدل والحرية وكرامة الإنسان؟.. الناس تسأل كثيراً والجماعة لا تملك إجابة، لأنها لم تستوعب فى لحظة أنها دخلت مرحلة «البلاء المبين»، مرحلة اختبار الفكرة والمشروع الذى ظلت تروج له سنين عددا. كانت الإخوان وهى مطاردة تنعم كل يوم بزيادة جماهيريتها، ومنذ أن وصلت إلى الحكم فإنها تخسر كل يوم من شعبيتها. لقد مكثت الجماعة 85 عاماً تحلم باللحظة التى تصل فيها إلى الحكم، وعندما بلغت المراد من رب العباد لم تدرك أنها أصبحت قيد التآكل، وأنها اتخذت، بإصرارها على الاستيلاء على السلطة، قرار انتحار، لأن الواقع أخذ يأكل «الفكرة» التى تأسست عليها الجماعة، ولم يبق إلا قليل، حتى يخر جسدها الميت على الأرض، ليعلم الخائفون من الجماعة أنهم لو أدركوا حقيقتها التى كانت فى علم الغيب «ما لبثوا فى العذاب المهين».