لا يتوقع المراقبون أن ينعم حكم الرئيس الجمهورى دونالد ترامب، خاصة فى فترته الأولى، بقدر وافر من الاستقرار يمكنه من تنفيذ سياساته والحفاظ على وحدة الولايات المتحدة، رغم الانقسام العميق داخل الرأى العام الأمريكى حول مدى صلاحية الرئيس الجمهورى الجديد لأن يحتل أكبر وأخطر منصب فى العالم، ورغم المخاوف المتزايدة لشرائح واسعة فى المجتمع الأمريكى من مغبة اندفاعه السياسى وتسرعه فى اتخاذ مواقف غير مألوفة كثيراً ما تصطدم بمعطيات السياسية الأمريكية وثوابتها، ويمكن أن تؤلب عليها عداوات ومشاكل ضخمة، وما يعزز هذه المخاوف ويزيد من انتشارها أن كثيرين كانوا يتصورون أن تبعات منصب رئيس الجمهورية ومسئولياته سوف تفرض على ترامب وقد أصبح رئيساً للولايات المتحدة أن يضبط لسانه ومواقفه وسلوكه فى إطار مسئول، يختلف تماماً عن وضعه عندما كان مرشحاً للرئاسة هدفه الأول أن يؤكد تمايز مواقفه وسياساته عن إدارة أوباما، ويثبت للناخبين الأمريكيين أنه يفكر خارج الصندوق وخارج الإطار المؤسسى الحاكم بل وربما ضد هذا الإطار، ويحافظ فى الوقت نفسه على شعبويته فى أوساط البيض الأمريكيين أصحاب الياقات الزرقاء، سكان المدن الصناعية وجمهوره الأساسى، الذين يحسون الوطأة المتزايدة للمهاجرين الأجانب وتأثيرهم البالغ على فرص العمل المتاحة، ويشعرون أنهم غرباء ومهمشون داخل الولايات المتحدة، لكن ترامب بعد نجاحه ما لبث أن عاد إلى شخصيته الأولى عندما كان مرشحاً ليؤكد للأمريكيين أن الرئيس ترامب لن يختلف كثيراً عن المرشح الجمهورى وربما يكون من الصعوبة بمكان أن يتخلى عن ثوابت شخصيته، ويزيد من قلق ومخاوف الأمريكيين تمسك ترامب بأولويات سياسية يصعب أن تلقى إجماعاً وطنياً واسعاً، ويمكن أن تؤدى إلى تكريس الانقسام فى الرأى العام الأمريكى بل وربما تستفز مقاومة أجهزة ومؤسسات الدولة العميقة داخل الولايات المتحدة، المتمثلة فى أجهزة ومؤسسات المعلومات والأمن والمخابرات التى تتبنى فى الأغلب مواقف مختلفة أو متناقضة مع مواقف ترامب خاصة فى قضايا التعاون بين موسكو وواشنطن، ومدى ملاءمة إسقاط العقوبات عن روسيا فى الوقت الراهن، والدخول فى تحالفات مع الرئيس الروسى بوتين فى الوقت الذى لا تزال تعتبر فيه هذه الأجهزة والمؤسسات روسيا أول المخاطر التى تهدد أمن الولايات المتحدة، وتدين على نحو صريح ومباشر محاولات اختراق الروس لرسائل البريد الإلكترونى للحزب الديمقراطى وتدخلهم السافر فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح المرشح الجمهورى ترامب، وفى قضية العلاقات الأمريكية مع الصين التى تشهد توتراً متزايداً بسبب عزم ترامب المعلن على مراجعة التزام الولايات المتحدة بسياسة (صين واحدة فى قضية تايوان) لتصبح هذه السياسة لأول مرة محل تفاوض جديد إذا لم تستجب الصين لمطالب ترامب فى إعادة النظر فى تعريفتها الجمركية وإعادة تقييم سعر العملة الصينية، وهما العاملان المهمان اللذان أغرقا الولايات المتحدة والعالم بالبضائع الصينية، إضافة إلى عزم ترامب المتسرع على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وعدم ممانعته فى نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس الشرقية، دون إدراك للعواقب الوخيمة لهذا القرار الذى يمكن أن يدمر عملية سلام الشرق الأوسط، ويفشل حل الدولتين، ويزيد من فرص التوتر فى المنطقة ويضعها على حافة بركان جديد، ويؤلب الشعوب العربية والإسلامية على واشنطن، ويقضى بصورة نهائية على دور الولايات المتحدة كوسيط فى عملية السلام، وما يزيد من مخاطر إصرار ترامب على هذه الأولويات السياسية الخاطئة، الآثار التى يمكن أن ترتبها على طبيعة العلاقات الأمريكية الأوروبية التى تشهد بداية تحول خطير يؤذن بسياسات أوروبية مستقلة تجاه عدد من مشاكل العالم أولها مشكلة الشرق الأوسط، تختلف عن السياسات الأمريكية، وتهدد بانقسام واضح فى الموقف الغربى ظهرت بوادره بوضوح بالغ فى مؤتمر باريس لسلام الشرق الأوسط، الذى انعقد قبل أيام معدودات من احتفالات تتويج ترامب رئيساً للولايات المتحدة، ليبعث برسالة تحذير قوية من مغبة سياسات ترامب على حل الدولتين الذى يمثل من وجهة نظر الأوروبيين والمجتمع الدولى الحل الوحيد الصحيح لأزمة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وليؤكد للإدارة الأمريكية الجديدة إصرار المجتمع الدولى على قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جوار إسرائيل ورفضه لتوجهات ترامب التى تهدف إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشرقية، لكن العامل الأكثر تأثيراً وخطورة على استقرار حكم الرئيس ترامب، خاصة فى فترته الأولى، هو حجم الخلاف الشاسع بين مواقف ترامب خلال حملته الانتخابية ومتطلبات الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة فى بقاع عديدة من العالم، تلزم الإدارة الأمريكية أن تضع فى اعتبارها مصالح الآخرين، ويزيد من خطورة هذا العامل أن أركان حكم الرئيس ترامب الذين يمثلهم وزير الدفاع ووزير الخارجية ومدير المخابرات المركزية الأمريكية لا يوافقون ترامب فى كثير من آرائه ورؤاه ولا يكتمون رأيهم فى أنها يمكن أن تناقض مصالح الولايات المتحدة، وهذا ما أظهرته آراء الشخصيات الثلاث أمام لجان الاستماع فى الكونجرس، عندما أكد وزير الدفاع الأمريكى أن روسيا لا تزال تمثل تهديداً لمصالح الولايات المتحدة، عكس ما يراه ترامب، وأنها تمثل أكبر الأخطار التى تهدد بقاء حلف الناتو على امتداد 70 عاماً، وأن من واجب واشنطن أن تحترم توقيعها على الاتفاق النووى الإيرانى وتلتزم بتنفيذ بنوده كاملة، على حين يعتبر وزير الأمن الداخلى جون كيرى بناء حائط حول المكسيك لمنع الهجرة، كما يريد ترامب، عملاً دون جدوى لن يحقق الهدف المنشود، بينما يرى وزير خارجيته ركس تيلرسون أن قضية تغيرات المناخ قضية خطيرة لا يتناسب مع خطورتها استهانة الرئيس ترامب بالآثار المدمرة للانبعاثات الكربونية على مصير كوكبنا البشرى وضرورة تعاون المجتمع الدولى لضبط هذه الانبعاثات وتقليلها.
هذه الخلافات الأساسية بين رؤى ترامب ورؤى أركان حكومته تشكل واحداً من أهم العوامل التى تعيق استقرار فترة حكم ترامب الأولى، لأن آراء أركان حكمه تشكل قيداً واضحاً على كثير من سياساته ورؤاه، ولأن ترامب يبدأ فترة حكمه الأولى دون ضمانات تؤكد حرصه على الحد الأدنى من التوافق والإجماع الوطنى، ومع حكومة لا تربطها وحدة الفكر والهدف، ووسط رأى عام يعانى من انقسام عميق لم يندمل بعد، بما يشكل قيوداً واضحة على الكثير من سياساته ورؤاه!
ويجسد الخلاف العميق داخل الرأى العام الأمريكى حول مستقبل العلاقات بين موسكو وواشنطن حجم الفروق الهائلة التى تباعد بين مواقف الأطراف المختلفة، فعلى حين يرى ترامب أن تصحيح العلاقات مع موسكو ورفع العقوبات المفروضة عليها وترتيب لقاء قمة عاجل بينه وبين الرئيس الروسى بوتين يمكن أن يشكل بادرة جديدة تضمن توافق الروس والأمريكيين على أهمية تكريس جهودهم للحرب على منظمات الإرهاب خاصة داعش واجتثاث جذورها، وربما تساعد على إنهاء الحرب الأهلية السورية، وتهيئ مناخاً أكثر أمناً واستقراراً يمكن الطرفان من خفض ترسانة أسلحتهما النووية، يرى قطاع عريض من الرأى العام الأمريكى أن ترامب هو فى النهاية صنيعة الرئيس الروسى بوتين، الذى سمح لنفسه بالتدخل السافر فى انتخابات الرئاسة الأمريكية وتسبب فى إذاعة الألف من رسائل البريد الإلكترونى التى تخص الحزب الديمقراطى وتخص المرشحة الديمقراطية هيلارى، كى يمكن ترامب من أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، واحتفل هو وكبار معاونيه بهذا الإنجاز الضخم فى حفل صاخب أذاعت تفاصيله المخابرات الأمريكية، بل ثمة من يرون أن بوتين يملك من الوثائق والاتهامات والأدلة التى تدين ترامب وتمكن الرئيس الروسى من تحريكه فى الاتجاه الذى يراه، ووسط هذه الخلافات العميقة والرؤى المتضاربة التى تدخل مؤسسات الدولة العميقة، المخابرات والأمن طرفاً فيها لا يبدو طريق ترامب مفروشاً بالورود أو سالكاً يمكن الرئيس الجديد من تنفيذ سياساته وقراراته بسهولة ويسر، على العكس ثمة محددات وعقبات ومشاكل لا تبشر بفترة حكم مستقرة، بل ثمة ما يقلق ويخيف وربما يؤدى إلى تفاقم المشاكل إلى حد أن البعض يعتقد أن ترامب لن يكمل فترة حكمه، وأياً كان التوجه فإن كل الظروف تؤكد أن الحكمة تتطلب ضرورة متابعة تطورات الداخل الأمريكى عن قرب أولاً بأول، وعلى مدار اليوم والساعة لأن سياسات أمريكا فى بداية عهد ترامب تعانى من سيولة حادة يصعب ضبط عناصرها.