2- درس حتمية إدارة المدنيين المنتخبين للحكم وللشأن العام وإبعاد الجيش عن السياسة لكى تتقدم التحولات الديمقراطية وتداول السلطة: فى باكستان بالقارة الآسيوية، وبعد تعاقب متصل للمدنيين والجنرالات على حكم البلاد ومتوالية مستمرة من الانتخابات والانقلابات العسكرية بدأت مع استقلال باكستان عام 1947، تنتقل الآن للمرة الأولى مقاليد الحكم من حكومة مدنية منتخبة إلى حكومة أخرى مدنية منتخبة أفرزتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
فقد حقق حزب الرابطة الإسلامية، حزب رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف الذى أطيح به فى التسعينات فى انقلاب عسكرى وواجه الكثير من الاتهامات بالفساد، النتيجة الأفضل فى الانتخابات متقدما على الحركة من أجل العدالة (يترأسها لاعب كريكيت سابق مشهور هو عمران خان) وعلى حزب الشعب الباكستانى الذى ينتمى إليه رئيس الجمهورية الحالى على زردارى وصاحب الكتلة الكبرى فى البرلمان المنتهية ولايته. سيشكل إذن نواز شريف متحالفا مع أحزاب أخرى الحكومة البرلمانية المقبلة فى باكستان، وسيحدد حزبه هوية رئيس الجمهورية القادم الذى سينتخبه البرلمان فى سبتمبر 2013 (تتبع باكستان النظام البرلمانى وبنية دولتها فيدرالية).
للمرة الأولى منذ 1947 لا تجبر حكومة مدنية منتخبة على الرحيل بفعل انقلاب عسكرى. للمرة الأولى منذ 1947، يتداول المدنيون السلطة عبر صندوق الانتخابات ويمارس الجيش ومعه الأجهزة الأمنية مهمة تأمين الانتخابات وتعميق التحول الديمقراطى باحترافية ودون دور سياسى. للمرة الأولى منذ 1947، تصل نسبة مشاركة الناخبات والناخبين إلى 60 بالمائة مع ارتفاع ملحوظ فى معدلات إقبال النساء والشباب وعلى الرغم من تهديدات حركة طالبان المسلحة وتوظيفها العنف لإلغاء الانتخابات.
بعد أكثر من ستة عقود تكسر باكستان متوالية الانتخابات والانقلابات العسكرية ويتم بها تداول السلطة سلميا بين المدنيين. يحدث هذا وبعض المدنيين هؤلاء تحيط بهم الشكوك بشأن التورط فى الفساد، والحكومة البرلمانية المنتهية ولايتها اتسمت بضعف شديد، الجنرالات الذين ارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان لم يحاسَبوا بعد، وعنف حركة طالبان مستمر، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بلغ حدا مأساويا (نسب بطالة ومعدلات فقر مرتفعة للغاية وظروف معيشة قاسية بها صحة عامة متدهورة وأزمات بنية تحتية مستمرة).
لم تضع أغلبية الشعب الباكستانى أملها فى «منقذ عسكرى» يخلصها من رداءة حكم المدنيين، ولم تطالب النخبة السياسية والفكرية بتدخل الجيش (لتخليص الوطن من خطر الفوضى والفساد)، ولم تخرج بها أصوات شعبوية كثيرة تدعو إلى هجر السياسة والعزوف عنها لانعدام الأمل. بل وضعت أغلبية الشعب (60 بالمائة) أملها فى صندوق الانتخابات لتغيير المدنيين بمدنيين آخرين، واستوعبت المؤسسة العسكرية الدرس وحمت الانتخابات باحترافية. فقط توافرت ضمانات الانتخابات النزيهة، وبواقعية تحركت باكستان على وقع مشاركة شعبية واسعة خطوة حقيقية إلى الأمام. فقط توافرت ضمانات النزاهة، وبواقعية تم تداول السلطة دون أن يمثل هذا حلا سحريا لكل أزمات الفساد والعنف وتدهور الأوضاع المعيشية وانتهاكات حقوق الإنسان.
درس باكستان، إذن، هو حقيقة أن الإجراءات الديمقراطية كالانتخابات وبناء المؤسسات الشرعية وتطبيق سيادة القانون لا تولد أبدا كاملة. بل دوما، أو على الأقل فى الكثير من الدول والمجتمعات، تعترضها الكثير من النواقص وتفعل مفاعيلها فى واقع ملىء بالفساد والانتهاكات والإخفاق. وهى، أى الإجراءات الديمقراطية هذه، تستغرق وقتا ليس بالقصير وطاقة مجتمعية ليست بالمحدودة، وهنا تكمن تكلفة التحول الديمقراطى، لكى تخطو خطوات كبرى إلى الأمام. احتمال الدول والمجتمعات لتكلفة التحول الديمقراطى وصبرها الجماعى على أزماته وعدم انقلابها على الإجراءات الديمقراطية، إن باستدعاء جيش أو تأييد تدخله أو الوقوع فى شباك حركات وجماعات متطرفة وعنيفة، هو فى التحليل الأخير الضمانة الوحيدة لبناء الديمقراطية ونجاحها.
فالديمقراطية لا تنجح فى تحقيق وعودها الثلاثة، التمثيل الأفضل للشعب والحكم الأفضل تحقيقا للعدالة وللصالح العام والحماية الفعلية للحقوق وللحريات، إلا بالتزام كامل بإجراءاتها وعدم الخروج عليها. الرئيس الذى جاء عبر صندوق انتخابات غير مزور لا ينبغى على معارضيه إن فقدوا الأمل فى سياساته وممارساته، وهذه قناعتى تجاه الرئيس المنتخب محمد مرسى، العمل على إسقاطه بالعنف أو باستدعاء الجيش للتدخل كمنقذ للسياسة من خارجها. بل عليهم، وهذا ما أدعو إليه فى السياق المصرى، ممارسة الضغط السلمى للتغيير عبر صندوق الانتخابات مجددا ويحق لهم وفى اتساق كامل مع الديمقراطية المطالبة بأن يأتى الصندوق هذا مبكرا.
عل قومى يفهمون.
أخبار متعلقةدرسان لنا.. جواتيمالا وباكستان (١-٢)