الرشوة: كلمة السر: «شخلل علشان تعدى»
الرشوة.. آفة كبرى تعطل الإصلاح
«شخلل علشان تعدى» عبارة ساخرة تحولت إلى «شعار» واقعى داخل العديد من الجهات الحكومية الخدمية التى يقصدها المواطنون لقضاء مصالحهم، مثل مكاتب البريد والتأمينات وإدارات المرور وعيادات ومستشفيات التأمين الصحى، وغيرها. فهى ظاهرياً تخضع المعاملات التى تتم بين المواطنين والموظفين لقائمة من التعليمات واللوائح والقوانين، إلا أنه على أرض الواقع «كل شىء بتمنه» وفق تسعيرة تجنب صاحبها كل مظاهر «البهدلة» من زحام وتأخير وعطلة قد تنتهى بـ«فوت علينا بكرة».
«العربى للنزاهة والشفافية»: القضية تعدت «الأدراج المفتوحة»
الظاهرة منتشرة بصورة كبيرة، قدرها المركز العربى للنزاهة والشفافية، فى تقريره لمقياس «الرشوة المصرى»، بنسبة 80% من إجمالى المعاملات التى تتم، حيث أوضح أن 8 مواطنين من كل 10 أكدوا تعرضهم لطلب رشوة تحت صيغ ومسميات مختلفة، بينما قال 7 أشخاص من كل 10 إنهم قاموا بالفعل بدفعها، واعترف 30% من أفراد العينة التى خضعت لدراسة المركز التى أجريت 2015/2016 بحصولهم على منافع ليست من حقهم نتيجة دفع رشوة، ورصد المركز مؤشرات الرشوة داخل المؤسسات الحكومية، ووردت وزارة الزراعة وهيئة المشروعات والتنمية الزراعية وشركات القطاع العام وأجهزة المدن الجديدة وهيئة المجتمعات العمرانية وقطاعا الرياضة والبنوك ووزارتا القوى العاملة والأوقاف، فى صدارة الجهات التى تشهد عمليات رشوة، وذلك بالنسبة لفئة «كبار الموظفين»، أما بالنسبة لفئة صغار الموظفين، فأوضح أن وحدات المرور وموظفى المحاكم وأقسام الشرطة وموظفى الجمارك ودواوين المحافظات، هم الأكثر حصولاً على الرشوة.
تدرج حجم الرشاوى من عملية دفع الرشوة مقابل سرعة استخراج الأوراق أو الشهادات المستحقة وصولاً إلى الدفع مقابل استخراج أوراق أو شهادات لا يستحقها صاحبها، وهو النوع الأكثر فساداً بحسب شحاتة محمد شحاتة، مدير المركز العربى للنزاهة والشفافية، المسئول عن مقياس الرشوة المصرى الذى صدر لـ5 أعوام متتالية، موضحاً أن المركز أجرى مقابلات شخصية مع عاملين وموظفين ومواطنين ذات صلة بالجهات المختلفة، وفى كل تقرير يظهر أن حجم الفساد القائم على الرشاوى «غير عادى» بين كبار وصغار الموظفين والمتعاملين معهم من المواطنين على حد سواء، وتعدى الأمر الأدراج المفتوحة إلى نماذج أخرى عديدة، منها وضع إحدى شركات النظافة 3 سيارات ملاكى تحت تصرف رئيس جهاز إحدى المدن الجديدة مقابل الحصول على تسهيلات لها فيما يتعلق بالتعاقدات. واعتبر «شحاتة» أن أجهزة المدن الجديدة من أكثر الجهات التى تعانى من ظاهرة الرشوة، وكذلك إدارات المرور وبعض موظفى المحاكم الذين يتحركون مع المواطنين لتخليص أوراق قضايا أو الحصول على حيثيات أحكام، فيما أوضح أن وزارة الزراعة «دخلت على الخط» بصورة كبيرة جداً لا سيما السنوات العشر الأخيرة لتتفشى فى إداراتها والجهات التابعة لها أعمال الرشوة.
وضم مقياس الرشوة المصرى، الذى أصدره المركز، 18 جهة فى فئة كبار الموظفين، و18 جهة أخرى فى فئة صغار الموظفين، وتم ترتيبها من الأقل انتشاراً للظاهرة إلى الأكثر انتشاراً وفق تصنيف من 10 درجات، وفى فئة كبار الموظفين جاءت هيئة الاستثمار فى المركز الأول كأقل الجهات التى تشهد الظاهرة وحصلت على 9 درجات من أصل 10، وتلتها وزارة النقل بـ8 درجات، ثم وزارة الصحة بـ7 درجات، فيما تساوت وزارات الإسكان والاستثمار والداخلية وهيئة التنمية السياحية بـ6 درجات لكل منها، وحصل قطاعا الاتصالات والبترول على 5 درجات، بينما تذيلت القائمة هيئة الأوقاف ووزارة القوى العاملة بـ4 درجات، وقطاع البنوك بـ3 درجات، وقطاع الرياضة بدرجتين من أصل عشر، وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وأجهزة المدن الجديدة بدرجة واحدة، فيما جاءت شركات القطاع العام وهيئة المشروعات والتنمية الزراعية ووزارة الزراعة فى المراكز الثلاثة الأخيرة بحصولها على صفر كأكثر الجهات التى تشهد تفشى الظاهرة فى إداراتها.
مقياس الرشوة المصرى: «المجتمعات العمرانية وأجهزة المدن الجديدة والتنمية الزراعية» الأسوأ فى فئة كبار الموظفين.. و«الأقسام والمحاكم ووحدات المرور» الأسوأ فى فئة الصغار
وفى التصنيف الثانى الخاص بفئة صغار الموظفين، تصدرت القائمة مكاتب التوثيق كأقل الجهات التى تعانى من الرشوة بمجموع 9 درجات، وتبعها موظفو الجهاز المركزى للمحاسبات بـ8 درجات، ثم مديريات القوى العاملة وموظفو الإدارات التعليمية بـ7 درجات، ومديريات الإسكان وموظفو البنوك الحكومية بـ6 درجات، وحصل صغار موظفى الإدارات الزراعية على 5 درجات، وموظفى المطارات 4 درجات، وتساوى موظفو هيئة التنمية الزراعية ودواوين المحافظات عند 3 درجات، بينما حصل صغار موظفى الأوقاف والتموين والأحياء على درجتين فقط، وصغار موظفى أجهزة المدن الجديدة وموظفى الجمارك على درجة وحيدة، فيما جاء بالمراكز الثلاثة الأخيرة من المركز الـ16 إلى الـ18 كل من صغار موظفى وعاملى أقسام الشرطة والمحاكم ووحدات المرور بحصولهم على صفر من الدرجات العشر لمقياس الرشوة.
ويقول رئيس المركز العربى للنزاهة والشفافية: «الظاهرة أصبحت أكثر انتشاراً فى مصر للأسف الشديد، وتعتبر عائقاً أساسياً أمام التنمية المستدامة، خاصة أنها تتدرج على مستويات عديدة فتبدأ من الرشوة بجنيهات قليلة حتى الرشوة بملايين الجنيهات، هذه مشكلة كبيرة جداً وعامة فى المجتمع، لا تقتصر على جهة أو وزارة، ونحن متأخرون جداً فى مواجهتها مقارنة بدول أخرى سواء أوروبية وآسيوية أو حتى عربية، مثل دولة المغرب التى حققت خطوات إيجابية جداً فى مكافحة ظاهرة الرشوة داخل المؤسسات الحكومية والمجتمع كله»، إجراءات عديدة لمواجهة الظاهرة والحد منها، فى مقدمتها بحسبه، إنشاء إطار مؤسسى للمكافحة يتمثل فى تشكيل «هيئة وطنية لمكافحة الفساد»، موضحاً أن دور هذه الهيئة لن يتداخل مع أدوار غيرها من الهيئات المنوطة بمواجهة الفساد، لأنها سوف تكون هيئة وقائية دورها وضع الضوابط الكفيلة بمواجهة الظاهرة، وتقوم بدور المنسق بين كافة الأجهزة الرقابية، دون أن يكون لها دور تنفيذى، مضيفاً: «الأجهزة للأسف بتشتغل لوحدها فى جزر منعزلة، وهذه الهيئة منصوص عليها فى المادة 6 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التى وقعت عليها مصر فى 2005»، يشير «شحاتة» إلى إجراء آخر خاص بإجراء إصلاحات تشريعية بتعديل وإصدار بعض القوانين التى من شأنها الحد من الظاهرة، منها قانون توفير المعلومات.
«شحاتة»: الظاهرة تنتشر بنسبة 80% من إجمالى معاملات المواطنين والموظفين.. و7 من كل 10 اعترفوا بالموافقة على دفع رشاوى لتمرير مصالحهم.. ومتأخرون عن مواجهة الظاهرة مقارنة بدول أخرى
لكن بعيداً عن القوانين والتعديلات التشريعية، هناك إجراءات أخرى أكثر تفصيلاً لا بد من اتخاذها لمواجهة الظاهرة، المحامى كريم المصيلحى، من واقع تعاملاته واحتكاكه بعدد كبير من الموظفين يرى أن الأزمة تكمن فى غياب الرقابة الداخلية وليس فى الحاجة لقوانين جديدة، خاصة أن العلاقات بين صغار وكبار الموظفين والعاملين فى العديد من الجهات الحكومية تمثل جزءاً كبيراً من الأزمة وبوابة للفساد والرشوة، مضيفاً: «كأنها شبكة، وكله عارف، لكن مفيش رقابة داخلية، لأن كل طرف مستفيد، وهناك مستفيدون صغار ومستفيدون كبار، الأزمة تكمن داخل الهيئات نفسها، والرشوة أصبحت هى وسيلة إزالة المعوقات، واللى مش بيدفع بيلاقى نفسه قدام عطلة ومشكلات وتأخير»، يطالب «كريم» بتحديث الأنظمة القديمة وتشديد الرقابة داخل المؤسسات من جانب المسئولين عليها، بدلاً من أن يصبحوا هم بدورهم جزءاً من الفساد نفسه: «كل رئيس مسئول عن موظفيه، واختيار المسئولين يجب أن يخضع لمعايير عديدة حتى لا يتحولوا إلى جزء من منظومة الرشاوى والفساد، فالمسألة لا تعتمد على القانون واللوائح فقط لأن القانون واللوائح بسهولة جداً يتم التحايل عليهما، لكن من خلال نظام وحسن اختيار من البداية وتسهيل الخطوات أمام كل صاحب مصلحة أو شكوى والاعتماد على وسائل حديثة بدلاً من الروتين وسلطة الموظف اللى ممكن يوقف كل المراكب السايرة».
إلى جانب ذلك كله، الظاهرة تتعلق بشق آخر من وجهة نظر مجتمعية ونفسية، فخبراء عديدون أكدوا أنه لا بد من إصلاح مواطن خلل مختلفة تتعلق بشخصية «الموظف والمواطن» على حد سواء، والمفاهيم السائدة فى المجتمع والثقافة العامة للأفراد، الدكتور محمد سيد أحمد، أستاذ علم الاجتماع، من مؤيدى هذا الفريق مؤكداً أن الإصلاح يبدأ من عند هذه النقطة المتعلقة بالفرد نفسه، «فالقوانين لن تردع عنصراً بشرياً راغباً فى الفساد، والرقابة لن تنهى الظاهرة، لكن نحتاج إلى ثورة أخلاقية بمفاهيم جديدة يتم زرعها فى المجتمع من خلال وسائل الإعلام والثقافة والمؤسسات التعليمية والدينية أيضاً»، يعتبر «أحمد» أن هذا الأمر يستحق أن يكون المشروع القومى الأول لمصر خلال الفترة الحالية، لأن إصلاح الفرد بحسبه يجب أن يكون الخطوة الأولى قبل إصلاح الهياكل الإدارية أو التشريعية، «الفرد هو وحدة بناء المجتمع، وعلى مدار عقود ماضية، تحديداً منذ أواخر السبعينات تعرض الفرد المصرى لعمليات تجريف وتشويه فى شخصيته وأفكاره وثقافته هى السبب الأول فى انتشار ظواهر الفساد فى المجتمع فى مقدمتها الرشوة»، المسئولية بحسبه تقع على عدد من المؤسسات المنوط بها عملية بناء وتأهيل الفرد وتشكيل شخصيته، ليكون هذا الدور مكملاً لدور المؤسسات الرقابية والقانونية والتنفيذية.
لكن إذا كان البعض يلجأ لدفع «الرشوة» بغرض تحقيق مصالح وخدمات لا يستحقونها وتصنف كنوع من أنواع الفساد المباشر، فإن الجزء الأكبر من عمليات الرشاوى التى تتم بصفة يومية يكون قطاع كبير من المواطنين مضطرين إليها لإنهاء خدمات طبيعية يعطلها الروتين والتأخير والعطلة والزحام وتعنت كثير من الموظفين الموكلين بالعمل، «أنا مابروحش مكان حكومى غير لما أدفع، حتى مستشفى التأمين الصحى اللى كان والدى بيتعالج فيها قبل ما ربنا يرحمه، كنا بندفع للموظفين والعمال والممرضات من أول يوم دخلنا فيه المستشفى لحد بعد إجراء العملية وموته واستخراج شهادة الوفاة»، رحلة طويلة قضاها أحمد فرج، قبل عامين، استمرت على مدار 7 أشهر، كان مجبراً هو وأشقاؤه لدفع رشاوى يومية تحت مسميات عديدة لا ينص عليها قانون ولا لائحة، «أبويا كان له تأمين صحى، يعنى حقنا، ومع ذلك كنا بندفع، خدنا السرير بتاعه بالدفع، والعلاج بالدفع، حتى الرعاية والاهتمام لو الممرضة أو العامل ماحطتش فى جيبه الفلوس ما يتحركش ولا يسأل فيك»، ثقافة «الدرج المفتوح» التى تشهدها المكاتب تحل بدلاً منها ثقافة أخرى هى «الجيب المفتوح» فى العيادات الصحية والمستشفيات، يضيف «أحمد» الذى أتم عامه الثلاثين: «كله ماشى بالفلوس، ولو مدفعتش تقف فى طابور طويل وتستنى وتتعامل أسوأ معاملة، يعنى يا تدفع يا تموت»، لا يتم هذا النوع من الرشاوى بصورة سرية، فهو أمر متعارف عليه داخل منظومة كبيرة، فبحسب الفترة التى قضاها «أحمد» فى مستشفى التأمين الصحى التابع لمديرية الصحة بالقليوبية، الأمر يجرى بصورة طبيعية ومعلنة، يقول: «كل حاجة بتحصل قدام الجميع، كأن ده هو النظام، يعنى لا ممرض بيتحرك ولا موظف بيخاف، الكل شايف وعارف وساكت، ولو مش عاجبك اخبط دماغك فى الحيط».