أتيحت للحركة الإسلامية المصرية، ثلاث فرص لإقامة مشروعها الحضارى الإسلامي، ولكن هذه الفرص ذهبت أدراج الرياح، والمتأمل فى أسباب ضياعها يكاد يراها متشابهة رغم الفارق الزمني، واختلاف الأشخاص.
وبعد ثورة 25 يناير لاحت الفرصة الرابعة للمشروع الحضارى الإسلامى لكى يقود مصر، ولكنى أرى شبح ضياعها يلوح فى الأفق، وأرى تكرار نفس أسباب ضياع الفرص الثلاث السابقة، وأرى رمادا يوشك أن يتحول إلى نيران تكاد تلتهم هذه الفرصة الغالية.
واليوم أستأذن القارئ فى عرض تجربة الفرصة الأولي، تاركا لفطنته البحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين هذه الفرصة وما نحن فيه الآن.
ففى أثناء الحرب العالمية الثانية ،فى بداية الأربعينات ترشح الشيخ حسن البنا للانتخابات البرلمانية فى الإسماعيلية، فاستدعاه النحاس باشا رئيس الوزراء، وكان رجلا حكيما وقال له: يا شيخ حسن هل أنت رجل دعوة أم سياسة؟ فقال: أنا رجل دعوة .. فقال: إن الإنجليز سيسقطونك فى الانتخابات بالتزوير رغما عني، وأنا أعطيك فرصة العمر لنشر دعوتك فى ربوع مصر كلها على أن تتنازل عن الترشيح للبرلمان، فوافق الشيخ على الفور، وكان يقدم هداية الخلائق على كل شىء، ولكن شباب الإخوان غضبوا وناحوا وحزنوا، فجلس معهم الشيخ البنا وذكرهم بصلح الحديبية، وكيف كان فتحا ونصرا للمسلمين حتى هدأت ثورتهم.
وبدأ الشيخ البنا ودعاة الإخوان يجوبون مدن وقرى ونجوع مصر، لا يحول بينهم حائل، فينتقلون من نصر إلى نصر، ومن ندوة إلى مؤتمر إلى معسكر ومعتكف، ثم نقلوا دعوتهم فى هذه الفترة إلى البلاد العربية.
ثم تغيرت الوزارة ومضى النحاس، وجاء أحمد ماهر وكان غليظا لا يحسن التوافق السياسى مع الآخرين، فترشح الشيخ البنا فى دائرة الإسماعيلية، فلم يحدثه ولكنه أسقطه بالتزوير، فهاج شباب الإخوان وماجوا، وانطلقت دعوات الثأر.. ثم قتل أحمد ماهر فى ظروف غامضة لا يعلم أحد عنها شيئا حتى الآن، وبعدها بفترة اكتشف البوليس السيارة الجيب التى تحمل وثائق النظام الخاص عن طريق الصدفة فقام النقراشى بحل الإخوان قانونيا، فاضطربت الأحوال وثار شباب النظام الخاص، وقتل أحدهم النقراشى باشا دون إذن الشيخ البنا، فقتل الملك فاروق رأس الدعوة مقابل رأس الدولة، وقبض على آلاف الإخوان، ودارت عجلة التعذيب السياسى لأول مرة فى مصر.. وضاعت هذه الفرصة.
لقد كان من الممكن على الحركة الإسلامية وقتها أن تصبر على الحل وأن تواجهه بطرق سلمية وقانونية وشعبية تحفظ حقها وتحميها فى الوقت نفسه من بطش الآخرين وتنأى بها عن دائرة العنف.
فالأجنحة العسكرية والأنظمة الخاصة لا تحمى الدعوة، ولكنها تقتلها وتوئدها وتسوق الآلاف من أبنائها إلى السجون والمعتقلات والتعذيب دون جريرة، و العنف الذى تصنعه الحركة الإسلامية لا يبطش بعدوها وخصمها بقدر ما يبطش بها، و لا يضر خصومها بقدر ما يضرها، ويحول المتعاطفين معها إلى ناكرين عليها.
إن تجربة السرية فى النظام الخاص هى التى جعلت النقراشى يحل الجماعة بذنب النظام الخاص وحده، فالسرية هى العدو اللدود للحركات الإسلامية أما العلانية فهى ضمانة لاستمرارها ونمائها.