حلم الطبيب يتشكل هنا: من دروس «كلوت بك» إلى يوميات «قصر كراش».. الروتين يقتل الرحمة
سيدة فى انتظار الأطباء على أبواب «الباطنة»
صورة زيتية لأحد دروس التشريح فى كلية طب قصر العينى تحمل تاريخ 20 تشرين الأول لعام 1827، يظهر بها الدكتور أنطوان كلوت بك، الطبيب الفرنسى المعروف، ومؤسس مدرسة الطب فى عهد محمد على باشا، أثناء إلقاء محاضرة فى علم التشريح، يحضرها 100 من الطلبة بالإضافة لشيوخ الأزهر والأساتذة والمترجمين، واحدة من اللوحات التى يضمها متحف قصر العينى، تحمل الكثير من المعانى التى غابت أخيراً، أبرزها الشغف والتركيز الشديدين.
190 عاماً، هو عدد السنوات التى تفصل أجواء اللوحة الخالدة عن تلك التى تسود حالياً، حيث أضحت الكلية عالماً موازياً يعيشه الطلبة دون أن يبدو عليهم أى تأثر بكل تلك الآلام والمعاناة الملاصقة لهم فى غرف المستشفى، يمرون إلى جوارها وعلى وجوههم ابتسامة تبدو متعمدة، دون أن يهتز لهم جفن، لا يبدو مشهد سيدة مسنة على كرسى متحرك تئن وحدها محفزاً لأحدهم من أجل التدخل. «كتر الحزن يعلم البكا» مثل ينطبق إلى حد بعيد على حال الطلبة.. جولة سريعة بين مبانى كلية الطب، الهيستولوجى، وغيرها، يواصل الطلبة حياتهم بصورة طبيعية للغاية، بين المحاضرات، والجلوس معاً على «سلالم الكلية» مروراً على الكافيتريا وشراء الملازم، حياة لا تختلف عن مثيلتها فى تجارة أو حقوق، اللهم إلا فى هذا القدر من المرضى الذين يجولون بالجوار.
طالب امتياز يفضح المنظومة الخربة: المريض بيموت أحياناً عشان ختم أو تذكرة دخول.. و«سلطان»: المشكلة تتلخص فى نقص موارد وسوء إدارة
تتواصل الأنشطة الطلابية من مسرح، وجوالة، وأعمال اتحاد طلبة، ومسابقات، وحفلات تخرُّج، حتى تلك الحياة العاطفية لا تبدو متأثرة بأى شكل، حيث دشن طلبة الكلية صفحتهم بموقع التواصل الاجتماعى «قصر العينى كراش» لتبادل رسائل الحب المجهلة مؤكدين «قبل أن نكون أطباء، فنحن بشر، لسنا آلات مصممة للدراسة فقط، نحتاج للوقوع فى الحب، وأن نكون محبوبين فى المقابل، هذا يعطى معنى لحياتنا».
«أ. ز» طالب امتياز فى قصر العينى كان لديه مجموعة من القصص والاعترافات، بعضها شخصى، بشأن تلك الابتسامة التى أكد أن أكثر الطلبة يتعمدون رسمها على وجوههم «ممكن تكون معايا حالة اتوفت وبعدها بدقيقة أدخل غرفة تانية يجيلى تليفون وأضحك عادى، جو الدهشة والانبهار بالمأساة بيروح بالتعود» الشاب الذى اعتاد البؤس يؤكد «قلبنا على المريض، كشباب أكتر من الدكاترة الكبار، لكن فى حدود المتاح، والضحك مجرد محاولة للتعايش مع العبث».
الشاب الذى يتوجب عليه فى بعض الأيام سحب عينات لخمسين مريضاً، والتعامل مع عشرات غيره، يؤكد «بنتعامل مع أرقام فلكية، مفيش فى الدنيا دكتور بيغطى 50 مريض، حتى أردأ دول أفريقيا مابتعملش كده» صحيح أنه يمتلك الكثير من الأعذار بشأن تلك الرداءة كزيادة الطلب عن العرض، وأن القصر على وضعه الحالى «أحسن الوحشين»، فضلاً عن وصف إدارته الحالية مقارنة بأوضاعه بـ«الناجحة» التى تخرج عاملاً بشرياً «متدرباً»، لكنه يعود ليوضح الجانب الآخر من المأساة التى يعيشها الأطباء والمرضى على حد سواء.
مأساة يواصل معها الشاب وزملاؤه العمل لأيام متتالية دون نوم «ناس كتير معدمة بتجيلنا، بس كمان بيجيلنا ناس مستفزة، خاصة فى الطوارئ، المفروض مايدخلهاش غير حالات صعبة، ألاقى واحد عنده شوية رشح وجاى الطوارئ بيبقى نفسى أقول له دا القصر العينى يا حبيبى انت إيه اللى جابك هنا.. مش ناقصينك».
إحصاءات يدرسونها بشأن عدد الأسرة والعمليات الجراحية والأشعة المقطعية والتحاليل وغيرها من الأرقام التى تبدو مرعبة للشاب «أرقام خرافية لا تمت للطب بصلة، لينا أصحاب بره بيحكوا لى وبعرف من كلامهم إننا مش دكاترة أساساً.. إحنا بنعالج الأعراض وبنخفف حدة الوجع عشان المريض يموت بهدوء من غير ما يقول آه».
«إهمال مش طبيعى طول اليوم» وصف لا يبدو بسيطاً يأتى على لسان الشاب الثلاثينى الذى يعترف «الفريق الطبى مهضوم حقه بطريقة غبية، ماتقنعنيش إنى هأدّى المطلوب منى وآخد نوبتجيات 3 أيام صاحى مقابل 1800 جنيه آخر الشهر، لما نائب رعاية مركزة يكون مطلوب منه يتابع 10 عيانين فى نفس الوقت، بدقة واهتمام، وسط ظروف لا آدمية، مانرجعش نزعل من الإهمال والفشل والتجارب المؤذية اللى بيعيشها زوار قصر العينى».
لا يبدو الحل قريباً، فالمسألة بحسب الطبيب الشاب نتيجة تراكمات سنوات طويلة، وضعت الإداريين فوق الأطباء، وجعلت أمر المريض مرهوناً بموقف موظف «إنك تحاول ترمى طوبة فى الميّة الراكدة دى شىء مستحيل، كلنا بنبقى عاوزين نخلص الامتياز وننفد بجلدنا»، رغم هذا كله يظل حلمه قائماً بشأن تحسن قصر العينى «الروتين هو مأساة القصر، المريض ممكن يموت عشان شوية إجراءات وورق» تجربة عاشها بنفسه أكثر من مرة «يبقى المريض بيموت، بسبب مشكلة فى القلب أو جلطة، ويموت عشان يوصل لكيس دم عليه الختم، أو تذكرة دخول، الحالة الأولى ماتت عشان أهلها اتبرعوا بعدد أكياس دم أقل من المطلوب، كانت محتاجة دم كتير والكيس ليها بتلاتة، ورغم توافر الدم ماطلعوش وفعلاً ماتت، الحالة التانية كانت لمريض جاى القصر بكسور متعددة فى جسمه كله ونزيف فى الطحال وكذا مكان، لكن عشان أهله ماقطعوش تذكرة وهم داخلين عطلوا الإجراءات ومالحقوهوش، خاصة إن اللى كانوا واقفين يومها بنات عمالين يهزروا قصروا فى إنعاش قلب الراجل».. لم يعد الموت مرعباً للطبيب المصرى، طريقة تعامل يصفها الشاب بقوله «هاعمل مجهود بس لو مات قشطة كده كده هيموت، المهم الورق يبقى كامل، والأمور الإدارية تمشى تمام، البنى آدم مش مهم، هو ده النظام».
محمد سلطان، الباحث فى برنامج «الحق فى الصحة» بنقابة الأطباء، والطبيب الشاب وجد نفسه يوماً ما جزءاً من المنظومة وإن كان حظه خارج «قصر العينى» لكن أبحاثه فى مسألة الحق بالصحة جعلته أقرب لتشخيص المأساة «فاكر أول يوم دخلت فيه المستشفى واتعاملت مع حالات وجهاً لوجه وكم الهلع والحزن، مع الوقت المناظر الصعبة بقت حاجة عادية، طبيعى يتكون عند كل طبيب شاب حالة من اللامبالاة عشان يقدر يتعامل، لكن اللامبالاة سلاح ذو حدين، القوة مطلوبة عشان الثبات لكن قلة الرحمة هى المأساة» يرصد الطبيب الشاب عدد المرات التى حاول خلالها الأطباء الاعتراض على الأوضاع دون جدوى «رفضوا مرة واتنين لحد ما اتعودوا، مشاكل الأطباء فى حياتهم اليومية خلت معاناة المرضى مسألة فرعية»، «نقص الموارد، سوء إدارة المتاح» كلمتا السر بحسب «سلطان» فى أزمة قصر العينى وبقية المستشفيات فى مصر.