تقزّم ذلك الكيان الكبير الذى وُلد عملاقاً فى الستينات من القرن الماضى شكلاً وموضوعاً.. فنظرة خاطفة إلى المبنى قبل الدخول تثير الإحساس بالأسى والحسرة والانقباض.. الواجهة الجميلة البراقة، التى تشهد ببراعة التصميم لمهندس معمارى عبقرى.. صارت صورة تراثية لا وجود لها.. إلا فى فيلم «سعاد حسنى» الشهير «صغيرة على الحب»، إخراج «نيازى مصطفى»، أيام أن كانت المدارس الابتدائية والإعدادية تصطحب التلاميذ فى رحلات سياحية إلى المبنى ليُشيدوا فى موضوعات التعبير بجماله ورونقه وشموخه وعظمة هذا الاختراع الحديث «التليفزيون» الذى يبث إرساله الأول عام (1960)، ويصبح مفخرة إنجازات ثورة يوليو (1952).. إنه الآن يئن من آثار تهدّمات وأطلال قديمة كابية.. وتشوهات.. غارق فى الأتربة التى تعلو نوافذ مهشّمة وقذرة.. وكان محاطاً حتى وقت قريب، ومنذ ثورة يناير، بأسلاك شائكة، وكأنه ثكنة عسكرية.. وفى الداخل مكتظ بحجرات كئيبة ومكاتب قبيحة متهالكة.. وروائح كريهة تسيطر على الطرقات منبعثة من دورات مياه تعاف النفس دخولها.. استوديوهات تبكى وتنتحب من فقر الديكورات والمقاعد.. وضعف الإمكانيات.. تبث برامج هزيلة لا خيال فيها ولا ابتكار.. ومذيعون ومذيعات يسألون الضيف الأسئلة نفسها.. ويجيب الأجوبة نفسها التى أتحفوه بها عشرات المرات التى تمت استضافته فيها طوال سنوات عديدة.. وإذا حاول أن يبوح مباغتاً بتصريحات يشتم منها أنه سيتجاوز ما يرونه خطوطاً حمراء، بينما يراه هو حقاً إنسانياً من حقوق حرية التعبير التى كفلها الدستور «ما يلبث أن يتراجع مؤثراً السلامة، وهو يرصد نظرات المذيع أو المذيعة المذعورة المصحوبة بارتجاف الشفاه وبياض لونها، وانتفاضات عصبية تشنجية.. وعرق غزير.. وتقلص شديد فى الملامح.. فيغمره إحساس بالشفقة والأسف.. ويغادر الاستوديو دون أن يطرح رأياً مختلفاً أو وجهة نظر لها قيمة.. لم يعد الضيف الذى يحترم مكانته الفكرية.. ويعتز بأطروحاته التنويرية، يرحب بالظهور على شاشات القنوات المحلية، ويُفضّل القنوات الخاصة المختلفة التى تحولت -للأسف- فى الآونة الأخيرة إلى دكاكين مفروشة لبرامج «التوك شو» فى سيرك كبير يغص بالمهرجين والحواة والأراجوزات ولاعبى الثلاث ورقات.. وكذابى الزفة ولابسى المزيكة والمطبلين والمداحين والأبواق الجاهزة بالتبرير والتلويث.. والمتسلقون وأصحاب الأجندات من كل لون.. والذين يستخدمهم أصحاب القنوات وأصحاب الاتجاهات لتحقيق أهدافهم.. وأصبح المعتاد أن ترى من يطلق على نفسه «خبيراً استراتيجياً» أو «محللاً أيديولوجياً».. أو «حنجورياً نخبوياً».. يُدلى برأيه فى قضية مثارة.. ويخرج مهرولاً من البلاتوه ليدخل آخر وقد غيّر الكرافت والجاكت، ليقول الرأى المعاكس فى بلاتوه آخر، ثم ثالث.. ورابع.. وهكذا دواليك..
أما إذا تكلمنا عن الدراما، فحدث ولا حرج، فقد اختفت تماماً مراقبة إنتاج أفلام التليفزيون التى توقفت منذ رحيل ممدوح الليثى عن المبنى وعن منصب رئيس قطاع الإنتاج.. ماتت بالسكتة القلبية بعد أن قدّمت (164) فيلماً يُعتبر معظمها من كلاسيكيات التليفزيون المصرى الراقية المحتوى والمضمون.. من تأليف كبار الأدباء، حيث كان «ممدوح الليثى» يؤمن بأن تحويل الروايات الأدبية إلى صورة مرئية هو ضمان أكيد لجودتها.. وقد عاصرته منذ أن جلس خلف مكتبه الشهير بالدور (21)، وأشعل حماس المخرجين وكتاب السيناريو من العاملين بالمراقبة، ومن خارجها.. وكان يختار النصوص بنفسه، ويبادر بالتعاقد على روايات كبار الروائيين، مثل «نجيب محفوظ» وإحسان عبدالقدوس» و«فتحى غانم» و«مصطفى أمين» و«موسى صبرى».. و«أحمد رجب» و«مصطفى محمود»، ثم كان يختار أيضاً بنفسه كاتب السيناريو والمخرج اللذين يصلحان لتجسيد هذه الروايات.. وكان يقرأ بنفسه أيضاً تلك السيناريوهات دون الاعتماد على تقارير اللجان.. وضارباً بعرض الحائط ملاحظات الرقابة التعسفية، فارضاً إجازة عرض الفيلم أو المسلسل على مسئوليته الشخصية، وليس سراً أن أعلن أن أحد أعمالى الذى أنتج، وهو يشغل منصب رئيس أفلام التليفزيون لم يعرضه أصلاً على الرقابة.. ومسلسلاً آخر هو «حضرة المحترم» عن رواية «لنجيب محفوظ».. كتبت له السيناريو والحوار.. الحدث الرئيسى به يعتمد اعتماداً كلياً على زواج البطل، وهو يعمل مديراً عاماً لإحدى المصالح الحكومية، بعاهرة بدرب الدعارة بكلوت بك.. بعد صدور الأمر العسكرى لعام (1949) بإغلاق بيوت الدعارة.. ولولا وجود هذا الحدث، لتم تدمير العمل تماماً.. اعترضت مديرة الرقابة، وأصرت على إلغاء الحلقة التى تحتوى على المشاهد التى تُجسد تلك المواقف، وأصرت على عدم الإشارة تماماً إلى بيوت الدعارة.. فاحتد عليها، وأجاز المسلسل رغماً عنها، وبموجب موافقة كتابية منه.
هذا وقد نفّذ لى فى هذه الفترة الخصبة (15) فيلماً تليفزيونياً أفخر بها، منها «فوزية البرجوازية» و«الوزير جاى» و«المجنون» و«محاكمة على بابا» و«نسيت أنى امرأة».. بالإضافة إلى علامات أخرى من أفلام لا تُنسى لكتاب ومخرجين آخرين.. ستظل محفورة فى الذاكرة، منها «الطريق إلى إيلات» و«أيوب» و«السادات» و«ناصر 56» و«أنا لا أكذب ولكنى أتجمل».. إلخ.
أما بالنسبة إلى المسلسلات، فقد توقف قطاع الإنتاج بالتليفزيون عن الإنتاج تماماً منذ سنوات.. سواء كان هذا الإنتاج مباشراً أو بمشاركة القطاع الخاص بنظامى المنتج المنفذ أو المشارك.. وأهملت الدولة كلية التدخّل لإيجاد حلول لسداد ديون القطاع المتراكمة وخواء ميزانيته.
ويأتى «رمضان المقبل» دون أن ينتج مسلسل واحد.. حتى إن رئيس القطاع اضطر إلى القيام بإجازة لإخراج مسلسل من إنتاج القطاع الخاص الذى أصابه أيضاً الكساد، وتوقفت القنوات التليفزيونية التى تعرض المسلسلات عن سداد مئات الملايين الخاصة بحقوق المنتجين لديها.. وبالتالى فقد توقف الكثير من المنتجين عن الإنتاج.. ومع ذلك -وفى مفارقة غريبة- لم يتوقف النجم أو النجمة عن المطالبة بأجور أعلى.
وفى ظل غياب الإنتاج الحكومى التليفزيونى شهدت المواسم الرمضانية السابقة إنتاجاً غزيراً أغلبه مسف.. الكوميدية منه قائمة على المواقف التافهة والمبالغات الممجوجة.. والتهريج الرخيص.. والتراجيدية تقوم على الميلودراما الفاقعة المعتمدة على فواجع الصدف ولا منطقية الأحداث.. مع كثير من العنف والبذاءات الجنسية.. وغلبت السطحية على العمق والتفاهة على قوة المضمون.. فى ظل غياب المؤلفين الكبار الذين تم استبعادهم من «الوليمة السنوية»، التى استولى عليها الصغار، وأغلبهم لم يدرس دراسة أكاديمية.. ولا يعرف الفرق بين كتابة السيناريو وبيع أكياس الفشار.. وبعضهم للأسف لا يجيد القراءة والكتابة.. والمنتجون يستعينون بهم فى «ورش السيناريو»، التى تكاد تقضى على فن كتابة السيناريو والحوار بتحويله إلى «صنعة تجارية» يُعد فيها «الصبى» إعداداً رخيصاً ومتدنياً ليصبح فى ما بعد «أسطى» يسهم مساهمة عظيمة الشأن فى تخريب عقول المتفرجين وإفساد الذوق العام..