«الوطن» تفتح ملف انكسار العرب فى الذكرى الخمسين.. «5 يونيو».. حكاية هزيمة
صورة أرشيفية
«عدى النهار» فى طرفة عين.. الرئيس جمال عبدالناصر لا يتوقف عن التصريحات المتوعدة، والبيانات الحماسية لا تنقطع من الراديو.. تدور الماكينة الإعلامية فتحمل «صوت العرب من القاهرة» الأخبار للعالم العربى: «اندلعت الحرب على الجبهتين المصرية والسورية»، «الجيش العربى يسحق جيش الاحتلال الإسرائيلى».. ينطلق صوت عبدالحليم حافظ: «يا أهلاً بالمعارك» فيشتعل الحماس: «ملايين الشعب، تدق الكعب، تقول كلنا جاهزين»، الصحف على مستوى الحدث: «إننا ننتظر المعركة على أحرّ من الجمر».. «المشير عامر فى الخطوط الأمامية».. «إعلان الطوارئ فى قطاع غزة»، «قواتنا تتوغل داخل إسرائيل». وحين جاءت «المغربية» تتخفى وراء «ضهر» الشجر، كان كل شىء قد ظهر على حقيقته بعد أن كفت الماكينة الإعلامية عن الدوران: الطائرات العسكرية المصرية محطمة على الأرض، والجنود المصريون تائهون فى الصحراء، والأراضى العربية فى قبضة الاحتلال الإسرائيلى، وهزيمة مُرّة يتجرعها الوطن العربى قيادة وشعباً.. «نكسة خطيرة» واجهتها الأمة من المحيط للخليج، دفعت «المهزوم» للظهور على شاشة التليفزيون بوجه يحمل حزناً فوق قدرة البشر: «قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى، وعن أى دور قيادى.. وأن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدى واجبى كأى مواطن عادى».. فيجيبه الطوفان الهادر مزمجراً رافضاً الهزيمة: «هنحارب.. هنحارب».
ستة أيام بالتمام والكمال دارت فيها رحى الحرب المشؤومة التى اندلعت صبيحة يوم 5 يونيو عام 1967، وانتهت باحتلال إسرائيلى لسيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وهضبة الجولان السورية، فيما ازدحمت قائمة الخسارة العربية بما لا يمكن تعويضه من العتاد، أما الجنود المصريون الذين احتشدوا بأوامر عليا فى صحراء سيناء، فقد تاهوا فى غبار القصف والضرب، منهم من قضى نحبه فضمه تراب الأرض، ومنهم من انتظر أوامر تأتيه من قيادته التى أصدرت قرارها المتعجل بالانسحاب، ما ضاعف الخسارة، فراح الجنود بين أسير وشهيد، أما أكثرهم حظاً فأولئك الذين نجحوا فى قطع مسافات هائلة فوق الرمال الساخنة، وعبروا قناة السويس للضفة الأخرى حيث كُتب لهم عمر جديد، بعد أن رأوا الموت بأعينهم أقرب إليهم من حبل الوريد.
50 عاماً كاملة مرت على «نكسة يونيو».. تغيرت خلالها الخريطة السياسية بشكل كبير فى العالم كله، كما تغيرت خريطة التحالفات والعداءات، لم يعد العدو عدواً، ولا الصديق صديقاً، حتى الهزيمة لم تعد هزيمة، تراكم عليها غبار كثيف جرّاء هزائم أخرى غزت مجتمعاتنا العربية، بدت إلى جوارها «النكسة» وكأنها جملة اعتراضية فى كتاب ضخم محشو عن آخره بحكايات عن خيانات، ومعارك، وصداقات، وتنظيمات إرهابية تمولها أنظمة عربية ضد أنظمة عربية أخرى فى إطار الصراع على النفوذ والقوة والمكانة. راحت «النكسة» وبقيت الذكرى، تقفز إلى الأذهان كلما عُثر على جثمان شهيد مكفن فى ملابسه العسكرية حاملاً رقاقة معدنية حول رقبته تحمل اسمه ورقمه العسكرى، أو كلما تشبث الجنود القدامى الذين وقعوا فى أسر القوات الإسرائيلية بمقاضاتها أمام المحاكم لتعويضهم عن سنوات الأسْر والمهانة، أو كلما دمعت عيون سيدة من أهالى السويس متذكرة تهجيرها بالقوة من مدينتها وقت الحرب، أو أحيت الصحف ذكرى ضرب مدرسة بحر البقر الابتدائية أو قصف معامل الزيتية، أو ضرب مصنع أبوزعبل، ساعتها فقط، يتذكر الجميع أن العدو لا يزال رابضاً هناك، رغم سنوات السلام الجميلة، ورغم علاقات التطبيع الدبلوماسية، ورغم الصور الفوتوغرافية التى يظهر فيها أصحابها مبتسمين وهم يصافحون بعضهم بحرارة.