لم يكن زمن الخلافة الفاطمية فى مصر كله يحمل رغد العيش وهناء المعيشة للمصريين.. فقد عانت مصر فى بعض فتراتها من أزمات اقتصادية طاحنة.. وتجرع المصريون مرارة الحروب مع حكامهم الجدد ضد القرامطة وغيرهم كثيراً.. ولكن تظل المجاعة التى ألمت بالبلاد فى عهد الخليفة الفاطمى المستنصر بالله، هى الأشد على الإطلاق.. والأقسى عبر كل التاريخ المصرى الممتد لسبعة آلاف عام.. تلك المجاعة التى عرفتها كتب التاريخ بـ«الشدة المستنصرية».
كان العام هو ٤٥٧ هجرية.. واستمرت لسبع سنين عجاف. كان سبب الشدة الرئيسى هو انخفاض منسوب المياه.. ولكن ما جعلها أعتى أزمة مرت بها مصر هو مصاحبة ذلك للخلاف الذى حدث داخل الجيش المصرى وقتها!
فقد كان الجيش الفاطمى يتألف من الأجناد التركية.. الذين تحالفوا مع جنود البربر وطردوا الأجناد السودانية من القاهرة إلى الصعيد، فما كان إلا أنهم عاثوا فيه فساداً وتعمدوا إفساد نظام الرى لنشر القحط أكثر مما كان بسبب انخفاض منسوب المياه.
لم يعرف المصريون سنين عجافاً كهذه السنوات السبع.. فقد فقد المصريون الغلة والقمح واللحوم وغيرها من صنوف الطعام. وأكلوا الميتات والجيف.. حتى أصبحت الكلاب والقطط تباع بأسعار باهظة لا يقوى عليها إلا كل ثرى. وبعد فترة ليست بكبيرة اختفت الكلاب والقطط من الشوارع، أما عن سعر رغيف الخبز فبلغ خمسة عشر ديناراً وثمن البيضة الواحدة من بيض الدجاج عشرة قراريط!
ويذكر فى التاريخ أن وزير الدولة ذهب فى التحقيق فى إحدى الوقائع وعندما خرج لم يجد بغلته فلقد خطفها الناس وأكلوها، أما الطامة الكبرى فقد حدثت حين ألقى الوزير القبض على ثلاثة ممن أكلوا بغلته وقام بصلبهم.. وعند الصبيحة لم يتبق من هذه الأجساد سوى العظام حيث التهم الناس لحومهم من شدة الجوع.!!
وذُكر أن هنالك زقاقاً يسمى «زقاق القتل» كانت المنازل فيه منخفضة فعمل سكانها على إنزال الخطاطيف يصطادون بها المارة ومن ثم أكلهم.. ولكن لم يتم التحقق من تلك الرواية تحديداً...
لقد وصل الناس إلى درجة بيع كل ممتلكاتهم من أجل الحصول على الطعام فلم تعد للأموال فائدة أمام نُدرة الموارد، فلقد ذُكر أن النساء كُن يبعن مجوهراتهن الثمينة من أجل الحصول على قليل القليل من الخبز.
لقد وصلت الأزمة إلى المستنصر نفسه، فلم يعد هناك فى حظيرته من الدواب شىء.. وباع رخام قبور آبائه وأجداده من أجل الحصول على الطعام.. ووصل الحال أنه أصبح مديناً بحياته لابنة أحد الفقهاء التى أطعمته تصدُقاً برغيفين يومياً.
واستمرت الأزمة حتى طلب الخليفة العون من بدر بن عبدالله الجمالى.. وكان حكيماً قوياً.. فعينه الخليفة وزيراً له.. وقام بإصلاح نظام الرى.. وفاض النيل مرة أخرى وكأنه يحتفل بالجمالى..!
لقد أحب المصريون الجمالى لانتهاء الشدة على يده.. فخلّدوه بان أطلقوا اسمه على أحد أهم أحيائهم الأثيرة.. فكان حى الجمالية نسبة إلى من أنقذ مصر من أقسى مجاعة حدثت على أرضها!
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية