فوضى التعيينات: جهاز إدارى «مهلهل».. وهيكل ضخم «بلا فائدة»
جانب من الزحام أثناء التقديم لإحدى الوظائف
التعيين الحكومى كان أحد مظاهر العشوائية على مدار عقود مضت، وظلت الأزمة تتفاقم دون مواجهة حتى حدث تضخم غير مسبوق ووصل تعداد إجمالى العاملين بالجهاز الإدارى للدولة إلى 6.4 مليون موظف وفق آخر إحصاء رسمى. «مصيبة سودا»، بهذا الوصف علق هيثم سعد الدين، المتحدث باسم وزارة القوى العاملة، مشيراً إلى أن هذه القوى الوظيفية الضخمة تكلف ميزانية الدولة 218 مليار جنيه سنوياً بند أجور فقط، أى ثلث الموازنة العامة، يشرح: «هذا الجهاز متضخم جداً، وبداية الأزمة منذ أن كانت الدولة تتكفل بتعيين الخريجين فى وظائف حكومية منذ عام 1964، واستمر الأمر حتى أوقف كمال الجنزورى عندما كان رئيساً للوزراء هذا التوجه فى عام 85، العام الذى شهد تعيين آخر دفعة للخريجين من خلال القوى العاملة»، واستطرد: «لو كنا استمرينا على نفس الطريق كان زمانا بنشحت دلوقتى، دى أمريكا بجلالة قدرها عندها 18 ألف موظف حكومى فقط، وإحنا قربنا من الـ6 ونصف مليون».
«النحاس»: قرارات التعيين على مدار سنوات لم تكن مدروسة.. و«سعدالدين»: مصيبة سوداء.. و«مرعى»: الإصلاح الإدارى عملية متعددة الأبعاد
سوء اتخاذ القرار، وعدم التخطيط الجيد، أدى إلى هذه «المشكلة الكبرى» حالياً، بحسب الدكتور صفوت النحاس، رئيس جهاز التنظيم والإدارة سابقاً، الذى أشار إلى أبرز مشكلات الجهاز الإدارى فى نقاط عديدة: «مشكلتنا الأولى أن قرارات التعيين السابقة على مدار سنين طويلة لم تكن مدروسة، وأصبحنا أمام فائض كبير من العاملين، وازدواجية فى مهام وأدوار بعض الهيئات والمصالح، والهياكل التنظيمية قديمة ويجب أن تخضع للتطوير، نحن ما زلنا نعمل بالهيكل الهرمى القديم وهذا غير مناسب حالياً ولا يلائم خطط النمو المستهدفة، ويجب أن يكون الهيكل التنظيمى مسطحاً ويضم مجموعات عمل متنوعة، وهذا أمر يفهمه كل الذين يعملون فى الإدارة، وهو يرتبط من جهة أخرى بشكل وطبيعة الموازنة العامة للدولة التى من الضرورى أن تتغير من موازنة الأبواب والبنود إلى موازنة البرامج والأهداف، وبالتالى الإصلاح عملية شاملة وليس إجراءات جزئية»، يشدد «النحاس» على المشكلة الأولى التى أشار إليها، والمتعلقة بـ«فائض العمالة»، فيقول: «فى الدول النامية اللى زى حالتنا، المعدل المتوسط لجهازها الإدارى هو موظف واحد لكل 50 مواطناً من إجمالى عدد السكان، وفى بعض الدول تنخفض قوة الجهاز الإدارى إلى موظف واحد لكل 80 مواطناً، أما فى الدول المتقدمة فتنخفض القوة إلى موظف لكل 140 مواطناً، لكن فى مصر الحال مختلف، لدينا موظف واحد لكل 13 مواطناً فقط»، مستدركاً فى اندهاش مصحوباً بغضب بعد برهة من الصمت: «شىء عجيب جداً يؤكد أننا عشنا بلا تخطيط، ولا يمكن الإبقاء على هذا الوضع المأساوى، جهاز إدارى مكدس لأعلى درجة ومترهل ولا بد من تخفيض أعداد العاملين به وإلا فالدولة كلها لن تستطيع السير إلى الأمام بهذا الحمل الثقيل»، يؤكد أن تخفيض الأعداد قد يثير مخاوف بعض العاملين وأسرهم، لكنه يستدرك فى الوقت نفسه: «هذا أمر ضرورى، والتخفيض لن يكون بالاستغناء عن الموظفين والعاملين جزافاً، لكن من خلال خطة شاملة ومتدرجة للهيكلة والتطوير وتحسين وتوفيق الأوضاع مع مراعاة جميع الأطراف على فترة طويلة من 10 إلى 15 عاماً». الدكتورة إيمان مرعى، الخبيرة فى علوم الإدارة، أكدت أن تخفيض العدد يجب أن يحدث جنباً إلى جنب مع رفع الكفاءة، أى الاهتمام بالعنصر البشرى من خلال تطوير مهاراته وسلوكياته وأفكاره وتحسين أوضاعه مادياً ومهنياً، وتضيف: «يجب العمل على تغيير الاتجاهات السلوكية للعاملين، فقد تكون التشريعات والنظم البيروقراطية ملائمة لكن تبقى سلوكيات العاملين مشكلة مهمة يجب عدم التهوين منها، فالسلوك البشرى هو الحاسم فى العمل الإدارى، الأمر الذى يتطلب وضع مدونة سلوك لموظفى الخدمة المدنية، وإيجاد مناخ وظروف عمل مواتية تسمح بتحقيق وتفعيل هذه الأهداف وآليات تطبيقها، مع التحسين المستمر لأحوال العاملين بالدولة مادياً ومهنياً، والاهتمام بالعلاقات الإنسانية، مع إرساء ثقافة الثواب والعقاب من خلال تحديث نظام الجزاءات والعقوبات بحيث يكون أكثر فاعلية وقابلية للتطبيق». عملية الإصلاح، أو القضاء على عشوائية الجهاز الإدارى، تتطلب تحقيق التوازن والتكامل بين مكونات عملية الإصلاح الإدارى نفسها، فتركيز خطة الإصلاح على عنصر أو مكون معين دون بقية المكونات قد يؤدى إلى الإخلال بمجمل العملية أو عدم تحقيق أهدافها، تؤكد خبيرة علوم الإدارة: «لا بد أن تركز خطة الإصلاح على الجوانب الماكرو-إدارية، والجوانب الميكرو-إدارية. ويقصد بالجوانب الماكرو-إدارية أنماط إدارة الدولة ككل، بما فى ذلك توزيع الأدوار بين أجهزة الدولة، والعلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأسلوب عمل مجلس الوزراء. أما الجوانب الميكرو-إدارية فتشمل أداء الوحدات الحكومية والمؤسسات العامة وتطويرها ورفع إنتاجيتها وتحسين أدائها، وضرورة الاستفادة من سياسة اللامركزية الجغرافية والوظيفية، وتفويض السلطات»، وتشدد د.إيمان على أنه لا بد من التعامل مع عملية الإصلاح الإدارى باعتبارها عملية متكاملة ومتعددة الأبعاد، تجمع بين تنمية الموارد البشرية، والتنمية المؤسسية، والقيمية، بالإضافة إلى التحديث التكنولوجى.