منذ أيام الفراعنة والمصرى «الغلبان» لا يتوقف عن رفع صوته بالشكوى إلى أولى الأمر لكى يرفعوا الظلم عنه. ومن فرط إبداع المصرى فى صياغة الشكاوى مال الكثيرون إلى وصفه بـ«المصرى الفصيح»، فى إشارة إلى ذلك «الفلاح الفصيح» الذى وقف أمام صاحب البلاط الفرعونى و«لعّب» لسانه وقدم شكواه بطريقة تطرب الحاكم وتظهر مدى ضعفه كمواطن، وأن الحاكم هو سيده وسنده فى الحياة وظل الله على الأرض الذى سيملأ جنباتها بعدله. وعلى مدار العمر المديد للمصريين، لم يتوقف المواطن عن كتابة الشكاوى، وعندما كان ييأس من استجابة الأحياء كثيراً ما كان يلجأ إلى الأموات من أولياء الله الصالحين فيرفع إليهم مظلمته طالباً منهم الشفاعة لدى أولى الأمر كى يحلوا له مشاكله! وكان الإمام الشافعى -واسمه مشتق من كلمة الشفاعة- الأكثر حظاً من غيره من الأولياء فى عدد الشكاوى المقدمة إليه.
وقد استدعى الرئيس محمد مرسى هذه الفكرة من دولاب المصريين وأنشأ ما أطلق عليه «ديوان المظالم»، لينضم إلى «ديوان لجان تقصى الحقائق» و«ديوان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» وما يستجد من دواوين أخرى. وتذكرنى فكرة «ديوان المظالم» ببرنامج «همسة عتاب»، وهو أشهر وأخلد برنامج فى تاريخ الإذاعة المصرية، لأنه ببساطة يستند إلى الفكرة الخالدة فى حياة المصريين، وهى فكرة الشكوى اللى تريح المواطن و«تفش» غله، لكنها فى النهاية مجرد همسة عتاب، يرجع «أبوك» بعدها عند «أخوك»!.
وعشماً فى الحل -الذى لا يجىء فى الأغلب- اعتاد المواطن أن يراعى مقام الحاكم عندما يرفع الشكوى إليه. ولاحظ كلمة «يرفع» دى، إذ من الضرورى أن يتقمص كاتب الشكوى إحساس «بير السلم» وهو يكتب إلى ساكن «القصر العالى» خصوصاً فى السطور الأولى من الشكوى، فالفلاح الفرعونى الشهير بدأ شكواه بعبارة «يا رئيس البلاط، سيدى، عظيم العظماء ورئيس الجميع»، وقبل حركة الضباط فى يوليو 1952 كانت الشكوى تبدأ بجملة «حضرة دولتلو أفندم»، ومعناها صاحب الدولة، على أساس أن من تقدم له الشكوى هو إله صغير يملك أقدار رعيته، وبعد عام 1952 بدأت كلمة «معالى» فى الظهور على أساس أن المواطن يجلس عند «مواطى» أقدام السادة الكبار.
أتصور أن كتاب الشكاوى لديوان مظالم الرئيس مرسى سوف يعانون مشكلة فى هذا السياق، وذلك بعدما أعلن السيد الرئيس أنه مجرد «خادم للشعب»، فى حين أن المواطن هو «السيد»، وبالتالى فالكلام بلغة «معالى» و«سيادة» و«فخامة» وغيرها لم يعد مناسباً، لقد أصبح من الضرورى أن يخرج المواطن الآن من قاموس اللغة «المحتفية» إلى قاموس «اللغة الحافية»، إلا لو كان يشكك فى أن «خدامه» بيقول الكلام ده بس «أدامه»!.