بعد تجرع بعض من حبوب الشجاعة وقليل من منشطات الصراحة، يمكننى أن أشرح لمن لا يود أن يستوعب، أو يرفض أن يصدق، ما تشكله الحياة فى مصر بالنسبة للكائنات الأنثوية، هى خليط من الخوف والقرف والاشمئزاز والرغبة فى اعتزال الحياة العامة. فى مصر المحروسة حيث الشعب المتدين بالفطرة يحترم النساء ويبجلهن ويخاف عليهن إلى آخر المنظومة الكاذبة التى شربناها غصباً ونحن صغار.
ونحن صغار، وكان ذلك قبل أربعة عقود، أتذكر جيداً كيف كانت النساء فى حى شبرا الجميل يرتدين ملابس عصرية مواكبة للموضة، ويسرن فى الشارع دون الهاجس المستمر بأنهن سيتعرضن لاغتصاب جماعى فى أى لحظة.
وكانت إذا سمعت إحداهن كلمة أو جملة على سبيل «المعاكسة» (وذلك قبل أن تتسلل كلمة التحرش إلى حياتنا ومعها ملايين المتحرشين الذين نتكعبل فيهم على مدار اليوم)، واعترضت، كان رد فعل الشارع عظيماً.
لم يكن الشارع المصرى حينئذ قد أخذ على عاتقه مهمة تقييم الكائنات الأنثوية بناء على نوع الملابس التى يرتدينها، ولم تكن الأحكام العرفية تصدر على هذه لأنها ترتدى بلوزة نصف كُم، وتلك لأنها لا تتواءم ومقاييس الأيزو التى يعتبرونها مثالية فى عالم الأزياء.
كما لم تكن الشرطة المصرية قد أعلنت نفسها «شرطة أخلاق» بحسب معايير المشايخ الذين تم إطلاقهم علينا دون رادع أو مانع من قبل زوايا تحت بير السلم. كما لم يكن الأزهر قد انزوى جانباً تاركاً جزءاً كبيراً من الساحة لأدعياء الدين وهواة تفصيل الفتاوى على مقاسات تعجبهم أو تعجب أولياءهم.
وكان أولياء الأمور ما زالوا على قدر معقول جداً من التنوير والقدرة على التفرقة بين الحق والباطل، وبين ماهية الجوهر وتمويه المظهر.
وفى خضم كل ذلك، كان المصريون -رغم انخفاض نسبة التعليم مقارنة بالوقت الحالى- أكثر ثقافة وتنويراً وتمسكاً بالعادات الجميلة والتقاليد الأصيلة. صحيح أن مفهوم الرجولة كان مهيمناً على كثيرين، لكنها كانت هيمنة قوامها الخوف على المرأة والرغبة فى حمايتها أكثر من الهوس بفكرة السيطرة على جسدها، والهسهس الرابط بين العفة والمظهر وإثبات الرجولة.
هذا الهسهس الذى تمت تغذيته مع سبق الإصرار والترصد عبر خطاب دينى ظاهره التزام وعودة إلى صحيح الدين، لكنه فى جانب كبير من جوهره لم يكن إلا تحقيراً للمرأة وتشييئها وتحويلها من كائن كامل الأهلية قادر على التفكير والتصرف والكلام، إلى كائن غير مؤهل إلا لمهام الإشباع الجنسى، ومن ثم هذا الهوس بجسدها، تارة بتخبئته وأخرى بإهانته وثالثة باتخاذه مقياساً لالتزام المجتمع.
هذا المجتمع الذى بات «ملتزماً» حوَّل حياة نساء مصر وفتياتها جحيماً بكل معانى الكلمة. هذا الجحيم لا يقتصر فقط على التحرش الذى نتبوأ فيه مكان الصدارة ولله الحمد، ولا يقف عند حدود تشكيلة كاملة متكاملة منه بدءاً بالتحرش بالنظر إلى أعضاء المرأة، مروراً باعتبار التعليق على هذه الأعضاء وشكلها حرية يضمنها قانون الرجولة طالما سمحت المرأة لنفسها بالوجود فى الفضاء العام، وانتهاء بالحق المكتسب فى اللمس والاحتكاك.
وفى حال اشتكت الكائنات الأنثوية المحتك بها والمتحرش بها، فإن المجتمع الملتزم إما يلومها أو ينبهها إلى أن «الست المحترمة» لا تجاهر بتعرضها للتحرش أمام الغرباء! أو أن «البنت المؤدبة» لا ترفع صوتها فى الشارع.
ونعود إلى مقومات الجحيم الذين تعيشه كائنات مصر الأنثوية على مدار الساعة. فقد ترعرع هذا الخطاب الدينى بمقاييس لا تمت للثقافة المصرية أو أصالتها بصلة، وتُرِك ينهش فى المرأة، وبات لدينا هذا المسخ العجيب الغريب، حيث غطاء الشعر يشفع الكشف عن تفاصيل بقية الجسد عبر هذا الشىء المسمى بـ«الكارينا».
ومن الـ«كارينا» إلى الباليرينا، التى كانت حلم طفلات وفتيات مصر قبل سنوات قليلة مضت. الباليرينا أو راقصة الباليه -هذا الفن الراقى الهادف- صار مكروهاً محرماً.. لماذا؟ لأن من حرمه لا يرى ولا ينظر إلا بمنظار الجنس والإثارة والشهوة. ومن ثم، فإنه لو أقدمت إحداهن على عشرة بلدى باهتزازات ورجرجات معتبرة مثلاً فى حفل زفاف وهى ترتدى عباءة سوداء بترتر، فهى «فرحانة مبتهجة». أما لو رقصت الباليرينا فهى تثير الغرائز وتؤجج الشهوات.
صارت نساء مصر شهوات لا أكثر أو أقل. ومع كل الامتنان والاعتراف بأن الرئيس عبدالفتاح السيسى يقر ويعترف بقدرة النساء على أن يكن بشراً قادراً على التفكير والإدارة وتبوؤ المناصب الوزارية والقيادية (وهو ما يبدو جلياً عبر وزيراتنا مثلاً) إلا أن نبض الشارع بات نبضاً معادياً للمرأة. يتوق إليها، ويكرهها.. يحلم بها ويحول حياتها كابوساً.. يقول إنه يحترمها، لكنه فى واقع الحال يهينها. يدعى أنه يبجلها، رغم أنه أبعد ما يكون عن ذلك. يهوى ترديد مقولات مثل «المرأة هى الأم والأخت والزوجة والابنة»، لكن ما أن يخرج بعضه إلى الشارع حتى يتحول إلى وحش مفترس يتنمر بفريسته ويتحين الفرصة للانقضاض عليها، لو لم يكن جسديا فلفظياً، وإن تعذر هذا وذلك فهو يتعمد إهانتها و«فش غله الذكورى المكلوم فيها».
وفش الغل دائماً ما يمسك بتلابيب الكائنات الأنثوية.. كم من مشاهد متكررة فى الشارع لسيدة تضطرها السلوكيات المنعدمة والأخلاقيات التى خرجت ولم تعد، إلى خوض معركة كلامية مع أحدهم، فتجد الشباب «الروش» والرجال من أصحاب البأس والقوة يسارعون إما إلى الفرجة للاستمتاع بالمشهد المسلى، أو تعتلى وجوههم ابتسامة بليدة هى خليط من الاستهزاء والاستضعاف. حتى التعليقات التى تصدر عنهم تعكس فكراً زرعه أحدهم فى أدمغتهم ويقوم على احتقار النساء وازدرائهن.
المشى فى شوارع مصر فى العام الـ17 من الألفية الثالثة عذاب للمرأة بمختلف فئاتها العمرية. والبعض الذى غضب من التقرير الذى صدر قبل أيام وجعل من القاهرة إحدى أكثر المدن افتقاداً للأمن بالنسبة للنساء، عليه أن يسأل أياً من النساء المحيطات به: هل تشعرين بالأمان فى الشارع؟ وللعلم أمان المرأة فى الشارع ليس قائماً على عدم تعرضها للسرقة أو القتل فقط، لكنه الأمان النفسى والمعنوى الذى يجعلها تشعر أنها كائن آدمى يسير على اثنتين وليس أربعاً يخضع لنقاش نكاح البهائم، أو ماتت أطرافه وبات مؤهلاً لمضاجعة الموتى.