غداً تحل الذكرى الرابعة والأربعون على رحيل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين (توفّى فى 28 أكتوبر عام 1973). كثيرون تعرّفوا على شخصية العميد من خلال العمل الإذاعى الذى عالج قصة حياته، وقام بدوره فيه الفنان محمود مرسى، ثم المسلسل التليفزيونى، بطولة أحمد زكى، وفيلم قاهر الظلام عن كتاب «كمال الملاخ»، وجسّد دور العميد فيه الفنان محمود ياسين، ومقابل الكثرة التى عرفت طه حسين من خلال الأعمال الدرامية والسينمائية، هناك قلة تعرفت على شخصه وأفكاره من خلال كتاباته. وفارق كبير بين الاعتناء بالرحلة الإنسانية لشخص فى قامة طه حسين، ومن المؤكد أنها رحلة جديرة بالتأمل، وبين استيعاب أفكار الرجل، وما امتازت به من جرأة فى مواجهة الموروث.
فى كتابه الأشهر «فى الشعر الجاهلى»، اجتهد طه حسين فى التفرقة بين التعاطى الدينى والتعاطى العلمى مع أحداث التاريخ، وتوسع فى فكرة سبق أن طرحها أحد المستشرقين حول قضية انتحال الشعر الجاهلى، وذهب إلى أن أكثره ألّفه الرواة فى عصر متأخر بعد ظهور الإسلام، واستدل على ذلك بغياب أى حديث عن الأصنام التى كانت تعبدها قريش، داخل القصائد الجاهلية، فى وقت ذكر فيه القرآن الكريم مدى تمسّكهم بعبادتها من دون الله فى مواجهة دعوة النبى صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الواحد الأحد. ترك الكثيرون الفكرة الأساسية التى يطرحها الكتاب، وهى قضية انتحال الشعر الجاهلى، وتشبثوا بعبارة ذكرها العميد فى كتابه، يقول فيها: «للتوراة أن تحدّثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدّثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلاً عن إثبات هذه القصة التى تحدّثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة». العبارة تبدو ثقيلة، لكن الرجل أراد بها مجرد التفرقة بين التناول العلمى مقارنة بالتناول الدينى لأحداث التاريخ، ولم يقصد بحال أن ينكر ما جاء به القرآن الكريم.
تشبث مَن عاصروا طه حسين ومن لحقوا بهم بهذه العبارة واتهموا الرجل بالكثير، وقد تعجب عندما تقارن موقف هؤلاء من طه حسين بموقفهم من شخصية مثل شخصية الحجاج بن يوسف الثقفى الذى هدم الكعبة فوق رأس عبدالله بن الزبير. إنها ببساطة عداوة العلم والفكر، وعبادة القهر والاستبداد. لم يلتفت هؤلاء إلى الأطروحة الأهم التى قدمها طه حسين فى كتابه والمتعلقة بـ«انتحال الشعر الجاهلى»، إلا قليلاً، وهاجمه هذا القليل بسببها، من زاوية أنه يشكك فى منهج الرواية الذى نُقل به القرآن الكريم، ناسين أو متناسين أن للنص القرآنى وضعية خاصة على هذا المستوى، فقد تكفل المولى عز وجل بحفظه «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». لكن الرواية فيما عدا هذا النص مناطها وأصلها البشر، وربما تكون قد خضعت لما خضعت له أهواء رواة الشعر الجاهلى الذين انتحلوا الكثير من الأبيات على أصحابه. لو أن هذه الأطروحة استقبلت بما يليق بها من قيمة، لكانت رحلة تنقية التراث قد بدأت منذ عقود طويلة، ولاختلفت أمور كثيرة فى واقع الخطاب الدينى المعاصر، لكن المشكلة أن الأصوات «الزاعقة» كثيراً ما يكون لها الغلبة على الأصوات الباحثة عن التصحيح والتغيير. رحم الله الدكتور طه حسين الذى لا يزال صوته يدوّى من الماضى، ولا يزال الواقع المعاش فى حاجة إلى أفكاره.