«الداخلة»: مزارات تاريخية بلا زائرين بسبب ركود السياحة وخطورة الأوضاع الأمنية بالصحراء
مدينة القصر الإسلامية بالداخلة
على بعد 20 كيلومتراً من مركز مدينة الداخلة، تقع واحدة من أشهر المعالم الأثرية الإسلامية التى لا تزال تحتفظ بشكلها المعمارى الذى كان سبباً أساسياً فى جذب السياحة العالمية لها، حيث أصبحت مدينة «القصر الإسلامية» من أهم المقاصد السياحية التى يحرص السائحون على زيارتها عند وجودهم فى مصر.
«القصر الإسلامية» من أهم المدن لجذب السياح.. ودرجة حرارتها أقل بـ12 درجة لمواجهة حر الصحراء
على باب المدينة كان الحاج صالح جالساً بعدما قام بجولته داخل المدينة كحارس تابع لوزارة الآثار، لم يصدق الرجل الستينى أن هناك زائرين للمدينة، بخاصة فى الفترة الأخيرة التى أعقبت حادث كمين الواحات، والتى أثرت على وجود السياح ليس فقط فى الواحات البحرية وإنما فى كافة الواحات الخمس، يستقبلنا الرجل بابتسامة تنم عن فرحة كان يترقبها من فترة قائلاً: «أهلاً بيكم للأسف مبقاش حد ييجى لنا كتير زى الأول، زمان ماكناش بنعرف نقعد من كتر الوفود السياحية وكانت الساحة اللى قدام المدينة بتبقى مليانة بالأوتوبيسات السياحية ومفيش مكان لحد يقف وكانوا بيقفوا فى طوابير توصل لآخر الشارع».
بجسد نحيل وذقن أبيض أشيب قادنا الحاج صالح إلى المدينة، وبدأ يروى لنا قصتها ويجول بنا بين أروقتها وحواريها الضيقة التى انقسمت إلى حارات، الجزارين والنجارين والحدادين والبنايين، وبشير، وأولاد خلف، والشهابيين، والقرشيين، والشريف، والدينارية، مؤكداً أن الحارات فى ذلك الوقت كانت تنقسم وفقاً لأصحاب المهنة أو العائلات الكبيرة، وكل حارة لها بابان، يتم فتحهما صباحاً بعد شروق الفجر وإغلاقها بعد الغروب وكان لا يسمح لأحد بالدخول بعد هذا التوقيت.
يقف الشيخ أمام أحد المنازل التى يعتلى بابها قطعة خشبية كتب عليها أبيات شعرية ودعوات لصاحب المنزل بالسعادة والرزق الوفير، وبعدها يتم حفر أسماء أصحابها وكذلك اسم النجار الذى قام بصناعة الباب والمنزل وسنة إنشائه بالتقويم الهجرى، لنجد أن آخر الأسماء كانت تنتهى بأصحاب مهنتها أو بالعائلة التى كان ينتمى إليها.
بعد الدخول من باب المدينة كان هناك مسجد ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم وغرفة بها مقام لأحد الشيوخ، يقام له مولد كل عام فى اليوم الـ27 من رمضان، يتوافد عليه مريدوه ليحتفلوا بمولده بالصلاة وتلاوة القرآن فى المسجد القديم، ورغم أن المسجد مكون من غرفة صغيرة مبنية من الطوب اللبن وحوائطها بها حفر صغيرة شبة دائرية كانت مخصصة لوضع المصاحف داخلها وكذلك الشموع لإضاءة المكان يحرص الناس دائماً على الوجود، بحسب كلام الحاج صالح.
المدينة بالداخل تحمل طابعاً خاصاً فى البناء، حيث اعتمدت على الحوارى الضيقة التى لا تتعدى مساحتها الثلاثة أمتار، ويوجد بعض البيوت المتصلة ببعضها البعض عبر ممر صغير علوى يصل البيوت المتقابلة، وهو ما يفسره الشيخ الستينى بأن هذه المنازل منازل عائلية تضم الإخوة المتزوجين وبالرغم من أن كل أخ قد يقيم بعائلته فى منزل فإن بيوتهم تكون متصلة من خلال القنطرة الصغيرة التى يتم بناؤها بين المنزلين المتقابلين وكأنها كوبرى للمرور.
داخل المدينة أيضاً ما زالت بقايا الطاحونة التى يتم بها طحن الحبوب، وكذلك عصارات الزيتون التى يعتمد عليها الأهالى فى الحصول على الزيت قائمة، بل وصلت إلى حالتها القديمة بعد ما قامت وزارة الآثار المصرية بترميمها وإعادتها إلى ما كانت عليه من قبل.
إيهاب يسرى، مفتش آثار مدينة القصر، بدا منهمكاً فما زال يستقبل وفد المرممين والمعالجين لاستكمال باقى أعمال الترميم فى المدينة، التى تهدم بعض أجزائها، يرجع أهمية المدينة الإسلامية إلى كونها شبه مكتملة، فما زالت البيوت على شكلها الإسلامى الذى بنيت عليه من قبل، ويظهر ذلك فى طريقة بناء البيوت والتزامها بمعايير الهندسة والمعمار الإسلامى، خاصة فترة العصر العثمانى، ويلفت مفتش الآثار إلى أن آخر تواريخ تم العثور عليها فى هذه المدينة يعود إلى عام 906 هجرياً وربما تكون هناك تواريخ أقدم لم نتمكن بعد من الوصول إليها. ويرجع «يسرى» سبب تسمية المدينة بالقصر إلى أنه يعتقد أن هذه المدينة تم بناؤها على أنقاض وبقايا لقصر رومانى أو بريطانى، وهو ما أكدته البعثات الأجنبية التى جاءت إلى المدينة ووجود بقايا لحصن بريطانى وكذلك قطع فخار تعود إلى العصر القبطى أيضاً، وهو ما يثبت نظرية أن المدينة الإسلامية تم بناؤها على بقايا قصر بريطانى أو رومانى كما تم العثور على قطع فخار قبطية.
أما بالنسبة إلى الشكل الذى اتخذته المدينة بالداخل، أوضح مفتش آثار مدينة القصر، أن هذا الشكل فى البناء جاء لكى يتماشى مع طبيعة المكان، فالمعمارى المسلم كى يتفادى درجات الحرارة العالية، قام ببناء المنازل على الجانبين وبينهما مسافة قليلة حتى يتمكن من بناء السقائف فى الشوارع ليحد من درجة الحرارة المختلفة، كما أن جدار المنازل كان سميكاً فى هذا الوقت ويصل إلى 80 سنتيمتراً حتى لا يشعر بدرجات الحرارة المرتفعة، مشيراً إلى أن درجة الحرارة داخل المدينة تنخفض عن الشوارع الخارجية بمعدل يصل إلى 10 درجات، وهو ما يجعل الرحلات السياحية تقضى بالداخل أوقاتاً كبيرة حتى تنخفض درجة حرارة الجو.
أما بالنسبة لطريقة تخطيط المدينة الإسلامية فاستخدم المعمارى المسلم ما نسميه فقه المعمار، وهو الذى يتجلى فى طريقة بناء البيت وترتيب الغرف، فمثلاً غرفة الضيافة تكون بجوار باب المنزل وملحقة بها دورة المياه، والسكن يكون فى الطابق الثانى، أما دورة المياه الرئيسية فتكون فى آخر المنزل بعيدة عن الأعين، وكذلك نجد أن أبواب المنازل غير متقابلة حتى يحقق قدراً من الخصوصية، وإذا كانت الأبواب متقابلة فهذا يعنى أن أصحاب المنازل أقارب وتجمعهم صلة دم، ويؤكد «يسرى» أن من بين الألغاز التى ترتبط بالمدينة الإسلامية هى مكان المدرسة والمحكمة التى تقع فى قلب المدينة، التى احتار العلماء فى توصيفها، هل هى مدرسة أم أنها محكمة قضائية، نظراً لشكلها وتكوينها، خاصة أن فترة العصر العثمانى كانت لا تعرف المحاكم، فى الوقت نفسه يوجد سجن داخل المبنى، وكذلك مكان جلوس القاضى وخلفه مكان للمكتب، ورغم الاختلافات الأثرية حول كونه مكتبة أو محكمة فانتهى الأمر إلى أنه ربما كانت مدرسة لتعليم القرآن الكريم ثم بعد توالى العصور الإسلامية تم تحويلها إلى محكمة، ويرجح أن يكون ذلك فى العصر الأموى، والمحكمة تمت الاستعانة بها فى تصوير بعض المشاهد السينمائية، كما جاء فى فيلم «أبوعلى» الذى لعب بطولته كريم عبدالعزيز ومنى زكى.
لم تكن مدينة القصر الإسلامية هى الأثر الوحيد المميز فى واحة الداخلة ويعانى أيضاً من غياب المترددين عليه سواء من الوافدين الأجانب أو المصريين، فعلى بعد 5 كيلو من مدينة القصر تقع مقابر المزوقة، وهى المقابر التى اكتشفها شيخ الأثريين الدكتور أحمد فخرى فى عام 1973، وما زالت هذه المقابر محتفظة بنقوشاتها وألوانها الزاهية وكأنها مرسومة قبل قليل، ومقابر المزوقة، وفقاً لمفتش الآثار المسئول عن المقابر، عبارة عن جبانة ترجع إلى العصر الرومانى، أهمها مقبرتان لشخصين أحدهما يدعى بادى أوزير، والآخر بادى باستت، ويرجح أنه يظهر من مقبرتيهما الواسعتين والملونتين أنهما كانا من علية القوم، ويوجد على المقابر نقوشات تمثل خيرات الواحة من النخيل والطيور ومحصول الشعير، وكذلك الإله «توتو» وهو عبارة عن جسد أسد ولا يوجد رسم له سوى داخل مقابر ومعابد الواحات ويُرجح الأثريون أن يكون هو إلهاً خاصاً بالواحات فقط.
أما معبد «دير الحجر» فهو يبعد عن «القصر» بنحو 15 كم وعلى بعد 47 كم من مدينة «موط»، ويرجع تاريخه إلى عصر الأباطرة الرومان (الإمبراطور نيرون) وتم تشييده بالحجر الرملى ومنقوش على جدرانه صور ونقوش تمثل العقيدة الفرعونية، وقد شيد لعبادة الآلهة، آمون وموت وخنسو، وللمعبد 7 بوابات، وبمجرد الدخول من البوابة الرئيسية توجد ساحة الشعب وفى نهايتها بئر ماء يتطهر فيها الملك قبل دخوله إلى حجرة قدس الأقداس، وبجوارها صخرة صغيرة يتم عليها ذبح القرابين التى تقدم للإله آمون، وتعود أهميته إلى أنه المعبد الوحيد الذى له نفس شكل مدخل معبد الكرنك، كما أن الإسكندر الأكبر زاره لتقديم الولاء والقرابين للإله آمون، وعلى أحد جوانب المعبد وجدت صورة للسيد المسيح مرسومة على الجدار يرجح أنه تم رسمها أثناء هروب الأقباط إلى الواحات هرباً من اضطهاد الرومان لهم ويطلق عليها حتى الآن اسم كنيسة المعبد.
مقابر المزوقة بالداخلة