من أجل بعث الفرعون: مُرمّمون يجمعون سترته من 110 قطع.. ومسنده من 6 آلاف
ترميم تابوت بمعمل الأخشاب
ما إن تدلف إلى معامل ترميم الآثار بالمتحف المصرى الكبير حتى تكتشف أنك لم تكن أبداً أقرب للتاريخ من هذه المرة، وكأن الزمن تجمّد عند هذه اللحظة، وتجسّد فى قطع أثرية تلمس معها التاريخ وتراه.. الفرعون الذهبى «توت» بيننا، وها هو قفازه بجوار ستراته داخل إطار زجاجى، بعدما لجأ المرممون الأوائل إلى حفظها بهذه الطريقة، خشية تفتتها.. سهام متعددة الأشكال كانت ترافقه فى رحلات الصيد، أحذية متعددة الأحجام كان يمتلكها منذ كان طفلاً، أوانٍ خزفية، مسند قدم ذو زخارف غاية فى الدقة عجز أمامها المرمم عن الوصول لآلية التصنيع التى استخدمها المصنّع منذ 3500 سنة قبل الميلاد.
مرممون يعملون على مدار الساعة للحاق بالافتتاح، يجمعون أجزاء اللغز من صور المكتشفين المحفوظة فى متحف التحرير، وأخرى تخيلية من صور للمعابد، وبقايا ألوان كادت تُمحى مع الزمن لقطع لا ملامح لها، وريقات بردى تحوى نصوصاً من كتاب الموتى، وسرداً لعمل الفرعون فى حياته فى معتقد أزلى بأنه يقدم عمله لآلهة الحساب، وبفعل الزمن كادت أعماله تذهب مع وريقات البردى دون عودة، دروع لم يجد مكتشفوها بداً من طلائها بطبقة بدائية من الشمع، وضعت على خلفية من الجلد ذهب معها لون الدرع الذهبى، وتحول للون أحمر قاتم، ما ضاعف من صعوبة عمل المرممين الذين حوّلوا القاعات إلى خلية نحل تعمل بلا ضجيج، وكأنهم فى محراب للتعبد، كل منهم يعكف على قطعة فى معامل تحوى أشكالاً شتى من القطع الأثرية، وأحجاماً متباينة منها.
شهران لإزالة طبقات الشمع عن دروع «توت» و«أحمد»: نعمل كالجراحين لوصل التاريخ وحل ألغاز الزمن
يقول المرممون: «من 110 قطع استطعنا تجميع إحدى السترات للفرعون الذهبى كانت شبه مفتتة منذ وضعت فى المخازن منذ 1923 وحتى 2014، السترات كانت موضوعة فى صناديق خشبية استخدمها هوارد كارتر، وبعضها حاول ترميم لاحق الحفاظ عليها فوضعها داخل إطار زجاجى، وتم لصقها بمادة غير معلومة، لذا قام وفد الجايكا بتصويرها للتوثيق، ثم بدأنا العمل بدراسة وضع القطعة فى المقبرة وكيف تم نقلها وكيفية حفظها، حيث وجدنا أنها كانت موجودة فى غرفة الدفن الأولى التى كانت تحوى ملابس الملك توت عنخ آمون، ثم بدأنا فى البحث عن الصور المتاحة للقطعة بعملية تخيلية ونستعين فى ذلك بقطع أخرى لاستكمال الأجزاء المفقودة من الرداء وألوانها ومن الممكن أن نستعين بـ110 قطع عدد قطع الرداء التى قمنا بجمعها ووصلت لـ35 قطعة خلال أربعة أشهر ومن المنتظر أن تستغرق شهرين آخرين حتى تتحول لرداء كامل».
وأضافوا: «من القطع الأخرى التى استغرقت وقتاً غير قليل مسند قدم توت عنخ آمون الذى يصور توت عنخ آمون وهو يقيد الأسرى الإثيوبيين، وهى مكونة من قش تعلوه طبقة من الكتان ثم الجلد المزخرف بالخرز، وكانت تلك العملية واحدة من أصعب عمليات الترميم، حيث قمنا بجمع 6 آلاف حلية «خرزة» للمسند الذى وصلنا بلا ملامح، واستعنا بشكل مسند آخر كان موجوداً فى نفس المكان، بالإضافة إلى صور قديمة، فيما لم نتمكن من الوصول للآلية التى استعملها المصرى القديم فى عمل الجزء العلوى من المسند وهو إعجاز علمى».
«كمال»: لدينا 19 معملاً للترميم.. منها 7 لـ«الآثار الثقيلة» بجانب المومياوات والبقايا والأخشاب والأحجار ومعمل تلسكوب إلكترونى لتحليل وتطوير العينات
على مقربة يعكف أخصائى الترميم، أحمد مصطفى، على واحدة من أهم قطع درع «توت عنخ آمون» الأربع الرمزية التى تصور الملك فى هيئة أسد، ومعه الأسرى: «كان العمل بالنسبة لى بمثابة تحدٍّ لإزالة طبقات متراكمة من الشمع استغرق العمل فيها شهرين، حيث وُضع الدرع على حوامل جلدية لحفظه عند اكتشافه مرة، ومرة فى ثمانينات القرن الماضى، حيث تراكمت الطبقات الشمعية، وبالرغم من المجهود الضخم الذى تحتاجه كل قطعة فإن التعب يذهب بمجرد أن نراها وقد عادت لصورتها الأولى، ونشعر بأن كل واحد منا كالجراح الماهر الذى يوصل بعمله أجزاء التاريخ أو كالمحقق الذى يفك غموض ألغاز الزمن».
دقائق معدودة تستغرقنا قبل أن نضطر لمغادرة معمل الآثار الدقيقة احتراماً للضوابط الأمنية التى يقتضيها تأمين هذه المعامل، بدأنا جولتنا فيها بالتعقيم خوفاً على القطع من أى تأثيرات قد يحدثها فى المعمل المؤمّن بمختلف الوسائل اللازمة للتكيف مع التأثيرات المناخية، بحيث لا تؤثر فيها أى أجواء، ويحفظ لها فى الوقت نفسه بيئة مستقرة، وظروف محكمة ومعزولة عن البيئة الخارجية، لحفظ وحماية ما تضمه من قطع أثرية، لنغادر نحو وجهتنا التالية، معمل الأخشاب الذى يحوى عجلات الفرعون الذهبى ومجموعة من التوابيت الخشبية أحدها وصل للمعمل بالتزامن مع وجودنا، وهو لأميرة من الدولة القديمة مجهولة الهوية، والتابوت شبه مفتت ليلتقط المشرف على المعمل حيرتنا عن الكيفية التى سيعود بها التابوت إلى حالته الأولى، ليؤكد والابتسامة تعلو وجهه: «رممنا ما هو أصعب وفككنا طلاسم كانت مجهولة لسنوات، ومصدر فخرنا وسعادتنا أن يقال إننا حقاً أحفاد للفرعون الذى نحت هذه القطعة أو تلك، فبالرغم من أن أغلبنا تلقّى دراسته بكلية الآثار على أساليب ترميم معتادة فإننا استطعنا تطوير التخصص والتوصل لمواد وأساليب حديثة استطاعت تحقيق المستحيل».
وتابع: «من أمتع اللحظات حين نقف بجوار قطعة من القطع الأثرية ونكتشف ما لم يكن مكتشفاً من قبل، ومنها أجزاء الثعبان الموجودة داخل العجلة الحربية لتوت عنخ آمون». وعلى بُعد خطوات وفد يابانى من الجايكا يعملون على قدم وساق بأحدث الأجهزة لتوثيق القطع الدقيقة، أجهزة ضخمة، عاكس للضوء يرفعه ثم يعاود خفضه فى محاولة متكررة لضبط الإضاءة دون أن يسبب أى ضرر للأثر، إن مركز الترميم تم افتتاحه عام 2010، حتى يكون جاهزاً لاستقبال 100 ألف قطعة أثرية لعرضها وتخزينها بالمتحف الكبير، وكان لا بد أن يتم تنفيذ المركز قبل افتتاح المتحف بفترة كافية حتى يتسنى ترميم القطع خصوصاً أن معظم القطع تأتى من مخازن متحفية.
وقال حسين كمال، مدير معامل الترميم بالمتحف الكبير، إن المعامل تضم 19 معملاً، 7 معامل متخصصة فى ترميم الآثار الثقيلة ومقسمة طبقاً للمواد الأثرية، ولكل خامة معمل، فهناك ما هو مختص بالأخشاب والأحجار والآثار الثقيلة والمشروعات الخاصة، إضافة للمومياوات والبقايا الأثرية، ويوجد معمل للفحوص والتحاليل وتشخيص مظاهر التلف ومعمل تلسكوب إلكترونى الذى يضم نوعاً متميزاً من الميكروسكوبات فائقة الدقة فى تحليل العيّنات وتطويرها عن طريق نفاذ الضوء خلال ذرّاتها لمعرفة تركيبها الداخلى.