المتأمل لتفاعلات البعض مع الذكرى السابعة للإطاحة بالرئيس «مبارك» من الحكم (11 فبراير 2011) يلاحظ كيف تعرقل العواطف الساذجة قدرة الشخص على النظرة الموضوعية إلى الأحداث. رباط العِشرة -بما يمتاز به من تسليم بالأمر الواقع- كان الرباط الأهم الذى جعل بعض المصريين يشعرون بالحسرة على الإطاحة بـ«مبارك»، والنقمة على ثورة 25 يناير. ويتشابه وضع المتحسرين الناقمين مع وضع الزوج أو الزوجة اللذين يعلم كلاهما أن الآخر شخص متخم بالعيوب والمثالب، لكن الأمر الواقع يفرض عليهما الاستمرار، بسبب وجود أولاد، أو خوفاً من نظرة المجتمع إليهما إذا قرر أحدهما أو كلاهما الانفصال. لا خلاف على قوة رباط العِشرة الذى تغذيه العادة، والعادة من أشد قوانين الحياة تأثيراً على البشر، لكن العادة لا تحول دون وصول الإنسان -أى إنسان- إلى مرحلة «انتهاء الصلاحية».
عندما وصل «مبارك» فى رحلة حكمه إلى العام الثلاثين كانت صلاحيته قد انتهت تماماً، فضعف تأثيره وتراجعت أدواره وغدا مجرد صورة باهتة لرجل بدأ رحلة حكمه قوياً قادراً، وأصبح تفكير أغلب المحيطين به منصرفاً إلى «الميراث» الذى سيتركه. كان أشبه بالزوج الذى ضربته الشيخوخة فأصبحت زوجته وأبناؤه يتحكمون فيه، وشركاؤه فى «الشركة المساهمة.. مصر» يركزون فى كيفية زيادة أسهمهم وتعظيم أدوارهم فى مجلس الإدارة باستغلال حالة الضعف التى انتابته. كل شىء منتهى الصلاحية مآله الخروج من الخدمة. «مبارك» كان «أصل» و«صورة». ظل الأصل يحكم ويسيطر حتى عام 2005، وبعد هذا التاريخ ظهرت «الصورة»، لذا كان من السهل على المصريين الذين ثاروا ضده فى يناير 2011 أن يسقطوه. فليس أسهل من أن تخلع صورة من «برواز».
بعض المصريين يتباكون على أيام «مبارك»، حيث كانت الأسعار أرخص، والحياة أهدأ وأقر، لكنهم ينسون أن هناك مَن بكى على أيام السادات عندما حكم مبارك، ومن بكى أيام عبدالناصر عندما حكم السادات، ولا يزال يبكيها حتى الآن. ينسى هذا البعض أيضاً أصواتاً عديدة كانت تنتقد بشدة هؤلاء أثناء فترات حكمهم وتتهم أداءهم، وربما كان بعض الباكين اليوم ممن كانوا ينتقدون بالأمس. وذلك دأب البشر، وخصوصاً من المصريين، منذ نبى الله يوسف وحتى الآن. يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ».
ثمة حقيقة يؤكدها التاريخ تقول: إن أزمات كل عصر تجد جذورها فى العصر الذى سبقه. المشكلات لا تنشأ من فراغ. ينسى المصريون مشاهد طوابير الخبز وأنابيب البوتاجاز، ومشاهد المظاهرات على الرصيف المقابل لمجلس الشعب، والعنجهية التى كان يعلّق بها المسئولون عليها، ينسون سعر الدولار الذى تضاعف فقفز من جنيهات ثلاثة وبضعة قروش إلى ما يزيد على الستة جنيهات فى السوق السوداء، ينسون تزوير الانتخابات، ينسون السعى المحموم إلى التوريث، ينسون التعذيب فى أقسام الشرطة، ينسون مَن ماتوا حرقاً فى القطارات، وغرقاً فى العبّارات، وردماً تحت صخور المقطم. كل ما نعانيه اليوم يجد جذوره فى زمن «مبارك»، وأزمتنا اليوم تجد جذورها فى تلك الأصوات التى كانت تبرر لـ«مبارك» استبداده بالأمس ولا تتوقف عن تكرار اللعبة نفسها اليوم!.