سُجن «العقاد» تسعة أشهر كاملة حينما كان يوصف بـ«كاتب الشرق الأول» من أجل دفاعه عن الدستور ضد الملك فؤاد، وكانت هذه المدة كبيرة على أمثاله من الكتّاب والسياسيين، وقد سطّر تجربته فى كتاب قرأته مرات، ثم راجعت أحوال السجون فى بلادنا فى كل العصور التى تلت سجن «العقاد» فلم ألمس فيها تغييرات جذرية، حتى يكاد كل من سُجن فى كل عصر، وقرأ تجربة «العقاد» يرى أن الفكر العقابى فى السجون، سواء للسياسيين أو الجنائيين، لم يتغير كثيراً إلا فى فترات قليلة، وعلى أيدى بعض الأفذاذ، مثل اللواءين فؤاد فريد أو أحمد رأفت وغيرهما، رغم أنهما لم يكونا ضابطى سجون، بل كانا ضابطى أمن سياسى محترفين.
تجربة السجن فيها الألم مغموس بالأمل مع التجربة الفكرية الثرية، فكل شىء معطل فى السجن سوى الذكر والفكر.
وعندما دخلنا السجن حديثاً تعلمنا من القدامى «السجن القصير نعمة، والسجن الطويل نقمة وبلاء لا يصمد له إلا الأفذاذ من ذوى العزمات».
وقد تأملت تجربة مئات من المشاهير دخلوا السجون وخرجوا منها، ورأيتهم دوماً بعد سجنهم أعظم رحمة وأوسع أفقاً وأكثر عذراً للآخرين وأكثر الناس أناة وتريثاً، وأقل الناس نقداً للآخرين، وأكثرهم بساطة فى الدنيا وخوفاً من الإقبال عليها، حتى إن ابتسمت لهم.
وتراهم جميعاً فى السجون لا سلوى لهم سوى القرآن وذكر الله، ولعلنا رأينا المصحف لا يغادر يد جمال وعلاء مبارك، وهما فى جلسات المحاكمة، وقد رأينا وزراء ومحافظين وضباطاً فى السجون، وذوى مناصب رفيعة، وقد سُجن رجال كانت تهتز مصر لكلمتهم وتخشى بأسهم، مثل أحمد كامل، مدير المخابرات الأسبق، ومحمد فوزى وشعراوى جمعة، وزيرى الدفاع والداخلية الأسبقين.
وكل من سُجن من ذوى المناصب أو الفكر أو السلطة أو السياسة كان القرآن سلواهم الوحيد ورفيقهم الجميل، حتى إن بعضهم كان يختمه كل أسبوع، فسجن دون ذكر وتواصل مع المحبوب الأعظم «الله سبحانه» يتحول إلى قبر وغم متواصل، لكن القرآن وذكر الله والتواصل مع المحبوب الأعظم سبحانه يفتح للسجين مقامات إيمانية وفتوحاً ربانية، لم يكن قلبه ليعرفها لولا هذه المحنة، فتحول محنته إلى منحة، وعذابه إلى عذوبة، وقيده إلى حرية. وكل سجين يحب أن يعيش مع قصة سيدنا يوسف ويُكرّر تأملها، ويعيش بقلبه أحداثها، فكما أنّ سيدنا أيوب حجة على كل مريض، فإن سيدنا يوسف حُجة على كل سجين، وكل منهم يريد فى محنته أن يصوغ شخصيته صياغة جديدة مع الإحسان والعفو والصبر الجميل.
السجن مدرسة تربوية كبيرة، تخرّج فيها عباقرة على مر التاريخ، ففيها تخرّج أبوحنيفة النعمان، والسرخسى، الذى كتب وأملى كتابه «المبسوط فى الفقه الحنفى»، على تلامذته من نافذة السجن، وابن تيمية، والعقاد، ومصطفى أمين، الذى غيّره السجن كثيراً ونبتت فى زنزانته أفكار «ليلة القدر للأيتام»، و«لست وحدك»، و«أسبوع الشفاء»، وغيرها من مشروعات الخير، مروراً بـ«السادات» الذى ألهمته «الزنزانة 54» تجديداً سياسياً أثمر انتصاره فى الحرب والسلام.
أما «مانديلا» فمكث 27 عاماً فى السجن جعلته رمزاً للعفو والتسامح والتسامى على الجراح، فضلاً عن ديلما روسيف، رئيسة البرازيل، خريجة السجون التى نهضت بوطنها، و«أربكان»، رائد الإسلام السياسى التركى، الذى سُجن خمس سنوات.
وكم كنت أود أن أكتب تجربتى الكاملة فى السجون، لكن الوقت يضيق والعمر يجرى، لذلك سجلت بعضها فى كتابى «من وراء القضبان».
وأنا أدين لزنزاتى بالكثير، فقد صقل السجن تجربتى وعقلى وكيانى، وأعاد تكوينى، وعلّمنى فقه التديّن الصحيح، وفقه العفو والصفح والرحمة والأناة والتسامح، وفقه الأولويات والمصالح والمفاسد، وفقه المراجعة، وأن أحب ولا أكره أحداً.
وكل التفاعلات الإيجابية فى حياتى تعلمت أكثرها من زنزانتى، التى أحببتها كما أحببت الكون كله، فلم أبغض منه شيئاً ولا أحداً أبداً، مهما كان، مدرسة السجن هى مدرسة سيدنا يوسف التى تتلخص فى كلمة واحدة هى «الإحسان والحب»، وهى رسالة إلى البشرية جمعاء دون حواجز أو سدود.