لم أتخيل يوماً أننى سأكتب هذه الكلمات وهى «غائبة».. وأننى لن ألمح فى عينيها بريق الامتنان وهى تلاحقنى - مداعبة - بسخريتها اللاذعة من «الطفلة» التى كبرت، وتجاوزت طول «ركبتها» التى كانت تتعلق بها، لتقبل جبينها وهى تنحنى لصلابة «الأم التى ربت»!.
لم أتصور أن أحتاج يوماً لضمة من صدرها تحتوى كل أحزانى وهزائمى وانكساراتى، فلا أجد فى غرفتها إلا مصحفاً ونضارة قراءة وراديو لا يزال - منذ سبع سنوات - مضبوطاً على إذاعة القرآن الكريم.. لكن الغرفة باردة، غارقة فى الصمت إلا من آخر نداء رددته بلهفة: «يا سحر».. وحين احتضنتها سلمتنى آخر أنفاسها لتسكن رئتى، واستسلمت لملاك الموت، لتبدأ «حياة أخرى» لا نعرفها.
أعترف الآن أننى كنت «نقطة ضعف» أمى، آخر العنقود المدللة، أخبرها الأطباء، (وأنا فى الخامسة من عمرى)، أننى لن أعيش طويلاً، فقررت أن تخوض حربها بطريقتها: (ارتدت عباءة سوداء، وعقدت شعرها الذهبى تحت طرحة سوداء، يطل من بينها وجهها كبدر منير، لتطوف بى مساجد «آل البيت».. ومن مولد «مارجرجس» إلى مولد «السيدة نفيسة».. إلى عيادة الطبيب الشهير التى تعلو أشهر مكتبات وسط البلد ظلت كفى الصغيرة موصولة بأصابعها تمدنى بأمل تدركه وحدها بعبقرية الأمومة)!.
جعلت صورة «العذراء» تميمة طفولتى المعذبة، وكانت تضعنى فى «حجرها» لنرتل القرآن معاً، بعدما ألتهم وجبة الكتب التى تقدمها لى كرشوة للذهاب للطبيب.. وكنت أحب نبرة الإيمان الواثقة فى صوتها، وبريق «دمعة كبرياء» تقف عند جفنيها رافضة «الضعف» رغم محنتها الصعبة.
كنت أستمتع بمقولة أبى: (امسحى من القاموس كلمة «لا»)، وإفراط أمى فى هدهدة مشاعرى وهى (تقيسنى بالشعرة كما تقول).. لم أكن أعى - آنذاك - أننى سر عذابها.. وأن «منحة الأمومة» هى «اختبار» أقسى من قدرة البشر على التحمل.. لكنها كانت صبورة وكأنها ترى «المستقبل» فتبتسم دائماً فى صمت من ينزف ويرفض أن يبتروا «قطعة من قلبه»!.
كنت فى العشرين من عمرى حين طفت لأول مرة بالبيت الحرام، وأنا تحت إبطها أمسك بطرف جلبابها، وأردد خلفها الأدعية، وهناك سمحت لدمعها أن يفيض.. كانت تتوسل للخالق أن يمد فى عمر «الصبية» التى بدأت تناقشها وتجادلها و«تناكفها لتثبت أنها كبرت».. أن يجنبها «مشرط الجراح» لتراها «عروسة».. وعدنا من الكعبة لنستقبل الاثنين تباعاً: (الجراح ثم العريس)!.
كنت أوقن دائماً أن «أبواب السماء» مشرعة للأمهات، وأن دعوتهن لا ترد، وأن لكل أم «خصوصية ما».. تجعلها وحدها «الاستثناء».. كنت أظن أن الله تعالى اختص أمى وحدها بتلك العبقرية الفريدة، وأن الأمومة لغة لا تكتب ولا تقرأ، أشبه بمناغاة طفل وليد، يشعر بنبض الحنان وحده.. لكننى اكتشفت عدالة السماء، وزعت تلك «المنحة» على نساء الأرض، حتى التى لم تنجب!.
وحدى الآن، أتأمل «أمى» عن بُعد، فكلما نظرت إلى المرآة أرى بريق عينيها، فأنا أشبه «أمى» إلى حد التطابق، نفس الأفكار، نفس الملامح، والأهم نفس درجة الاعتدال.. أحياناً أشعر بأننى أفكر بعقلها، أعشق بقلبها، إنها تسكننى لدرجة سقوط المسافات بين الأرض والسماء!. دربتنى أمى على قبول الدنيا «كما هى» ثم القتال لتغييرها.. من صوتها أحببت الفن، ومن إتقانها لفن «صناعة البهجة» عشقت الطبيعة والحياة، من حزمها اعتدت أن أكون «امرأة بألف رجل»، من تصوفها تعلمت الوسطية والتسامح والتصالح مع النفس.. من إيمانها المطلق بالمشيئة الإلهية وقدرات «طفلتها» أدركت أنى جئت إلى الحياة «مختلفة».. وأن «القدر» المحفور على جبينى سيشكل سنوات عمرى كـ «لوحة فسيفساء».. قد تعجب بها لكن سيظل كل جزء فيها «سراً» لا يدركه إلا عقل عالم أو قلب صوفى!.
أنا مدينة لأمى بكل حرف كتبته، لأنها أول من أهدانى كتاباً فى طفولتى، مدينة لها باليقين الذى يملأ كيانى، لكن رغم كل ما غرسته «أمى» فى وجدانى لم تعلمنى كيف أعتاد على فراقها؟.. كيف أتعايش مع «اليتم» وأنا امرأة ناضجة؟.. كيف أستوعب أن «الفقد» أصبح لغتى اليومية.. وأننى أصبحت بلا «سند»؟.
أنا «تائهة».. فحين سقطت مملكتك ضللت الطريق إلى منازل أخواتى.. فتبددت الأعياد، وتيبست الضحكات.. الآن أفتش عن المشورة التى كانت تعتقل تمردى، أفتش عن صوتك يهمس بـ«الرقية الشرعية» لتبرأ أوجاعى.. فلا أجد إلا فراغاً هائلاً يبتلعنى.
أنا «حزينة» يا أمى.. «وحيدة» رغم الزحام.. أناديك كل ليلة.. أحياناً أشعر كأن يدك الحنونة تكفكف دمعى، وأنى أراك فى كل الزوايا.. وأحياناً أشعر أنك قانعة بانتصارنا معا وأنه آن الأوان لأفكر بعقلى وأتألم بحواسى وأعبّر بلغتى.. لكنى أعود سريعاً، (طفلتك التى لم تفطم بعد)، أفتش عن «الحبل السرى» الذى يربطنى بك لأسترد نفسى.. وتتوحد ذراتى التى نثرها الفراق.
أحتاجك يا «مولاتى».. وسأظل أحتاجك حتى موعد اللقاء.