منذ فتح المسلمون الشام، فى عصر عمر بن الخطاب، كانت دمشق -ولم تزل- هذه الأرض «عاصمة الصراعات الكبرى»، فقد شكلت منصة الانطلاق التى اعتمد عليها معاوية بن أبى سفيان فى الاستيلاء على الخلافة بعد وفاة عثمان بن عفان، وأيلولة الحكم إلى على بن أبى طالب. وفيها تأسس الملك العضوض (الوراثى) خلفاً لنظام الخلافة الراشدة الذى تراضى عليه أصحاب النبى، صلى الله عليه وسلم. ومن الشام خرجت المجموعة التى قتلت «حفيد النبى» الحسين بن على، رضى الله عنهما. وفى الشام أيضاً تأسس مفهوم قدرية الحكم، الذى يعنى أن الوصول إلى العرش يحدث بأقدار الله، وليس بإرادة البشر أو أفضلية بعضهم على بعض. وهى الفكرة التى أسس لها «يزيد بن معاوية»، وكانت لها بعد ذلك تطبيقات عدة فى تاريخ المسلمين.
ويمكننا أن نستدل على ذلك مما يحكيه «ابن كثير»، وهو من كبار مؤيدى نظرية «قدرية الحكم»، ويرى أن المُلك يصل إلى صاحبه بأمر الله، ويُنزع منه بأمر الله أيضاً. يقول صاحب «البداية والنهاية»: «وقيل إن يزيد لما رأى رأس الحسين قال أتدرون من أين أُتى ابن فاطمة، وما الحامل له على ما فعل، وما الذى أوقعه فى ما وقع فيه؟، قالوا: لا!، قال: يزعم أن أباه خير من أبى، وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير من أمى، وجده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خير من جدى، وأنه خير منى وأحق بهذا الأمر منى، فأما قوله أبوه خير من أبى فقد حاج أبى أباه إلى الله عز وجل، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما قوله أمه خير من أمى، فلعمرى إن فاطمة بنت رسول الله خير من أمى، وأما قوله جده رسول الله خير من جدى، فلعمرى ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى أن لرسول الله فينا عدلاً ولا نداً، لكنه إنما أتى من قلة فقهه، لم يقرأ: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ)».
دمشق كانت المهد الأول لانتصار فكرة «تسييس الدين»، بمعنى توظيفه فى تحقيق أهداف سياسية. ومقالة «يزيد بن معاوية» تعكس وعيه بخصمه الحسين، فلم يكن يرى فيه أكثر من منافس سياسى، لا يملك أدوات المنافسة، وأنه لا يقل عنه رغبة فى الحكم، وقد شاء الله أن يجعله من نصيبه. فى دمشق كان «يزيد» يجلس فى انتظار رأس الحسين. وفى كربلاء انتهى الأمر بالحسين إلى أن يقف وحيداً غريباً فوق أرض لا يعرفها، ليدفع حياته ثمناً لإيمانه بقضيته، ومن لحظة استشهاده بدأت المأساة الكبرى فى تاريخ المسلمين، التى ما زلنا نعانى من توابعها ونتائجها حتى اليوم. تلك المأساة التى بدأ فصلها الأول بتنازل الحسن بن على عن الخلافة لـ«معاوية». وهى الخطوة التى قام بها «الحسن»، خوفاً من إزهاق المزيد من أرواح المسلمين فى الصراع على الحكم، فى حين نظر إليها «معاوية» كخطوة واجبة من أجل الصالح العام للدولة المسلمة، التى لم يكن يستطيع أن ينهض بعبء حكمها آنذاك سوى شخصه.