فى عام 1953 شُكلت لجنة مكونة من خمسين، من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقانونية والعسكرية، وبرئاسة رئيس الوزراء حينئذ، على ماهر، لوضع دستور جديد للبلاد، ولكن عندما قُدمت المسودة فى سنة 1954 إلى مجلس قيادة الثورة تم تجاهلها وأُهملت، بسبب تغير الظروف السياسية.
والحقيقة أن مسودة دستور 54، تضمنت نصوصاً دستورية عصرية، يمكن أن تستفيد منها لجنة الخمسين لتعديل الدستور التى تمارس عملها الآن.
فالنصوص الدستورية بطبيعتها تضع المبادئ الأساسية، التى يقوم عليها نظام الحكم، وكذلك تضع الأساس لحريات وحقوق وواجبات المواطنين، أما التفاصيل فتُترك للقانون ينظمها بما لا يخالف المبادئ والنصوص الدستورية.
وإذا ما اطلعت لجنة تعديل الدستور الحالية على مسودة دستور 54، فإنها بلا شك ستجد فيها ما يحل كثيرا من الإشكاليات التى تواجه اللجنة، وستجد إحكاماً فى الصياغة، فضلا عن أن المسودة قد وضعت مبادئ سامية للحريات والحقوق للأفراد، بما يكفُل لهم الحماية فى مواجهة السلطة التنفيذية إذا ما تعسفت.
فقد نصت المادة الرابعة على أن «تكفل الدولة الحرية والطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين»، ونصت المادة الثانية على أنه «لا يجوز أن يلزم مصرى الإقامة فى مكان معين إلا بحكم من القاضى، وكذلك لا يجوز أن تحظر على المصرى الإقامة فى مكان معين إلا فى الأحوال التى تحددها قوانين الصحة والسلامة العامة، وفى كل حال لا يجوز أن يكون حظر الإقامة وتحديدها لأسباب سياسية»، ونصت المادة 11 على أن «حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمى الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد، طبقاً للعادات المرعية فى الديار المصرية، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافى الآداب العامة»، وهذه المادة على وجه الخصوص، عبرت بروح عصرية عما يجب أن يكون عليه النص الدستورى السليم لحرية الاعتقاد وحماية القيام بشعائر الأديان، بما لا يخالف النظام العام أو ينافى الآداب، كان هذا النص فى عام 1954، واليوم نجد فى 2013 من يطالب بتقييد حرية الاعتقاد، بدعوى الحفاظ على الإسلام، ونسى هؤلاء أن الإسلام عقيدة مكانها القلوب والعقول والوجدان، وهو دين سماوى خالد، لا يحتاج لحماية نفر ينتحلون صفة التحدث باسمه وحمايته، بل إن القرآن الكريم كفل حرية العقيدة بنص صريح «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
ونصت المادة 18 من مسودة دستور 54 على أن «يحدد القانون الحالات التى تقوم فيها الدولة بالتعويض عن تنفيذ عقوبة، بناء على حكم نهائى ثبت خطأه، كما يحدد شروط هذا التعويض وصوره»، فالمبدأ هنا مهم لمن حكم عليه ظلماً ونفذ عقوبة بلا ذنب جناه، فألزم القانون بوضع قواعد لتعويض هذا المواطن وأوجب على الدولة الالتزام بذلك، وهذا النص العصرى الحديث لم نجد له مثيلا فى الدساتير اللاحقة.
ونصت المادة 20 من المشروع على أن «لا يحاكم أحد إلا أمام القضاء العادى، وتحظر المحاكمة أمام محاكم خاصة أو استثنائية ولا يحاكم مدنى أمام المحاكم العسكرية»، فهل هناك وضوح وحسم لهذا الأمر الذى نختلف فيه اليوم بعد ما يقارب نصف قرن من الزمان؟
وفى الحريات نصت المادة 21 على أن «إيذاء المتهم جسمانياً أو معنوياً محظور، ويعاقب المسئول وفقاً للقانون».
ونصت المادة 23 على أن «للمنازل حرمة ولا يجوز مراقبتها أو دخولها للتفتيش أو الضبط أو غيرها إلا بأمر مسبب من السلطة القضائية يحدد مكان التفتيش وموضوعه، على أن يكون دخولها بعد استئذان من فيها، ولا يجوز دخولها ليلا إلا بإذن القاضى. وذلك كله فى غير أحوال التلبس والاستغاثة»، وهذا النص يحمى حرمة البيوت ويقضى على ظاهرة زوار الفجر، ووفقاً للقواعد العامة تبطل أى إجراءات تخالف هذا النص الدستورى الملزم لكافة السلطات فى الدولة.
ونصت المادة 25 على أن «حرية الرأى والبحث العلمى مكفولة. ولكل إنسان (لاحظ هنا كلمة إنسان فلم يقصرها الدستور على المصريين) حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول والكتابة والتصوير والإذاعة وغيرها ولا يؤاخذ أحد على آرائه إلا فى الأحوال التى يحددها القانون».
فالمبدأ العام لحرية التعبير مطلق وغير مقيد، بل إنه أعطى للمواطن العادى حصانة كالحصانة التى يتمتع بها النائب فى البرلمان، فيما يتعلق بحرية إبداء الرأى، فأين نحن من هذا النص المحترم؟
ونصت المادة 26 على أن حرية الصحافة والطباعة مكفولة، ولا يجوز تقييد إصدار الصحف بترخيص ولا فرض الرقابة عليها، وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها أو مصادرتها بالطريق الإدارى محظور».
كما نصت المادة 30 من المشروع على أن «للمصريين دون سابق إخطار أو استئذان حق تأليف الجمعيات والأحزاب ما دامت الغايات والوسائل سلمية».
وينظم القانون «قيام الأحزاب والجماعات السياسية على الأسس الديمقراطية الدستورية، وعلى الشورى وحرية الرأى فى حدود أهداف وطنية بعيدة عن أى نفوذ أجنبى». وهذا النص حدد الإطار العام لتكوين الأحزاب -بعد أن أطلق حرية تأسيسها دون إخطار أو استئذان- وعلى ذلك فإن تأسيس الأحزاب على مرجعية دينية أو طائفية أو مذهبية أو فئوية هو أمر محظور منذ زمن بعيد، وأشعر بالمهانة حين نناقش هذا الأمر الآن ونحن فى القرن الواحد والعشرين، كما نظمت المسودة وحددت طبيعة الاقتصاد، أنه اقتصاد حر، على ألا يضر بمنفعة اجتماعية، أو يخل بأمن الناس أو يعتدى على حريتهم وكرامتهم، ووفقا لمبدأ العدالة الاجتماعية وذلك فى المواد 35، 36، 37، كذلك نصت المادة 40 على أن «العمل حق تُعنى الدولة بتوفيره لجميع المواطنين القادرين ويكفل القانون شروط العدالة على أساس تكافؤ الفرص»، ونظمت المادة 41 العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال كمبدأ عام، يحقق العدالة الاجتماعية، ويحدد ساعات العمل، وينظم تقدير الأجور العادلة، ويكفل صحة العمال وتأمينهم من الأخطار، ومراعاة باقى حقوق العمال تكفلت بها المواد 41، 42، 43، 44، 45، وبمطالعة هذه النصوص نجد أن مشروع دستور 1954 قد كفل حقوقا غير مسبوقة للعمال قبل نسبة الـ 50% عمال وفلاحين التى تجاوزها الزمن.
وكل ما أرجوه من لجنة تعديل الدستور، هو وضع هذه النصوص العصرية فى الاعتبار، رغم أنها نصوص قديمة. ونستكمل القراءة فى هذا المشروع فى المقالات القادمة.