قبل ساعات من اكتشاف حاوية الآثار المصرية المهربة إلى إيطاليا، كان فريق من السادة الرقباء الرسميين والمتطوعين يحاول إبلاغ الحكومة بالتجاوزات والجرائم التى ترتكبها المسلسلات التليفزيونية الرمضانية، وعلى رأسها المسلسل الذى يتناول موضوع عصابات سرقة وتهريب الآثار، وقيل فى هذا الشأن إن هذا العمل الدرامى يمثل إهانة للشرطة ووزارة الآثار بما يعرضه من معلومات كاذبة يستحيل حدوثها فى ظل الجهود العظيمة التى تبذلها الشرطة والحكومة فى الحفاظ على آثار مصر.
المسلسل ليس جديداً على المشاهدين الذين يعرف كل منهم أن هناك عصابات فى كل أنحاء مصر تنقب عن كنوز الفراعنة وتستولى على ما يقع تحت أيديها من آثار وتقوم بتسويقها فى أوروبا عن طريق سماسرة متخصصين فى هذه التجارة غير المشروعة، وسبق أن نشرت الصحف طرفاً من هذه الجرائم التى يشارك فيها الكبار قبل الصغار، وسبق أيضاً عرض هذه الظاهرة فى عدد كبير من التحقيقات الصحفية والتليفزيونية طوال السنوات الماضية دون أن تتدخل الحكومة بجدية وصرامة للقضاء على العصابات التى تمارس هذا النشاط الإجرامى، وتكتفى وزارة الآثار بين الحين والآخر بإعلان نجاحها فى استرداد بعض الآثار المنهوبة بالاتفاق الودى مع أهل الخير فى البلدان الأجنبية الصديقة.
كوارث الآثار لا تقتصر على عصابات التنقيب غير المشروع وسرقة الآثار وبيعها فى الداخل أو الخارج، فهناك أيضاً تلال أثرية تباع لمن يدفع الثمن، وهناك أراضٍ لا حصر لها حصل أصحابها على تصريح من هيئة الآثار بالبناء عليها رغم أنها تحتوى على آثار من كل الأنواع وكل العصور، ولكن أصحابها يدفعون الملايين كرشاوى لمن يملك حق المعاينة وتحرير التصريح اللازم الذى ينفى وجود آثار فى هذه المواقع. وفى أحوال كثيرة يضطر مراقبو حفر الأساسات للصمت أمام جبروت أصحاب الأراضى الذين يملكون استبدالهم بآخرين يقبلون الرشوة أو طاعة رؤسائهم المتعاونين أو المتواطئين.
الآثار ليست وحدها ضحية ديمقراطية وضع اليد التى تحرص عليها الدولة المصرية فى شتى عهودها، ففى مصر يمتلك البدو مساحات شاسعة من أراضى الدولة لا ينازعهم فيها أحد، وفى مصر مناجم ذهب يتولى شأنها أشخاص تعرفهم الدولة ويعرفهم الناس ولكن الحكومة لا تملك اتخاذ أى إجراءات قانونية ضدهم وتكتفى أحياناً بالاتفاق الودى مع زعمائهم، حتى يقبلوا اقتسام ثمن الذهب مع الدولة أو ممثليها!! وفى مصر جزر كاملة وبحيرات ومناطق كثيرة فى شتى المحافظات يملكها الناس بوضع اليد ولا تملك الدولة فى شأنهم سوى محاولة إقناعهم بالتخلى عن الأرض مقابل تعويضات مالية ضخمة، أو تتصالح معهم مقابل منحهم مساكن جديدة. وفى مصر قرى وأحياء كاملة يحتلها تجار المخدرات والبلطجية وعصابات النشل والسرقة وسائر الجرائم الأخرى، ولا يستطيع أحد التصدى لهم، لأن بعضهم يعمل فى مهام مرشدى المباحث وبعضهم الآخر لا تتعامل معه الشرطة من الأصل إلا فى حالة الحملات الموسمية التى تعود بعدها الأمور إلى ما كانت عليه، وفى مصر عصابات تعمل فى تجارة السلاح خاصة بعد أحداث يناير التى شهدت فيها البلاد تداول كميات هائلة من السلاح المسروق والمهرب فى شتى المحافظات، فضلاً عن ترسانة السلاح القائمة سلفاً فى الوجه القبلى وبعض مناطق الوجه البحرى والساحل الشمالى وغيرها.
ديمقراطية وضع اليد تشمل أيضاً الباعة الذين يسيطرون على مساحات كبيرة من الشوارع والميادين فى كل المحافظات تقريباً، وصارت بعض مديريات الأمن تعترف بهم وتترك لهم الأرصفة وتلتمس منهم عدم التوسع أكثر من ذلك، ولكنهم بطبيعة الحال لا يقبلون هذه الالتماسات ويحتلون أكثر من ثلث مساحة الشارع العمومى وأحياناً يغلقون الشارع بالكامل مثلما يحدث فى بعض شوارع منطقة المنشية بالإسكندرية ومنطقة محطة مصر وشارع البوستة بالزقازيق وبعض شوارع مدينة بنها وبعض شوارع العتبة والأزهر وغيرها فى القاهرة «إلخ.. إلخ»، ويقول الباعة إن شرطة المرافق ومسئولى الأحياء لا يرغبون فى إيجاد أى حل رسمى لهم، وأن الأحياء تحصل منهم على مبالغ مالية كمخالفات كل عدة أسابيع وهذه المبالغ يتم تخصيص جزء منها للسادة الموظفين الذين يحرصون على استمرار هذا الوضع.
فى ظل ديمقراطية وضع اليد، نجح البلطجية واللصوص فى الاستيلاء على أراضٍ لا يملكونها وشيدوا عليها عمارات شاهقة وأبراجاً دون ترخيص خاصة أثناء أحداث يناير والعامين التاليين لها، وقبل ذلك كان بعض السادة النواب وأعوانهم يرتكبون نفس هذه الجرائم وما زالت أعمالهم شاهدة عليهم حتى الآن، وبين الحين والآخر تقوم الحكومة بإزالة الطوابق والعمارات المخالفة، ولكن نسبة هذه الإزالات لا تصل إلى 1٪ من حجم المبانى المقامة دون ترخيص، وفى مدينة الإسكندرية وحدها مئات الآلاف من هذه المبانى، وحين حاول أحد المحافظين التصدى لهذه الظاهرة قام أصحاب المصالح باستئجار بلطجية ومرتزقة لتنظيم مظاهرات أسبوعية ضده، إلى جانب تخصيص بعض مراسلى الصحف فى توجيه السباب والاتهامات له بصفة منتظمة إلى أن تمت إقالته.
ديمقراطية وضع اليد صنعت مليارديرات ومليونيرات يملكون ثروات تفوق موازنة الدولة، وصنعت توريثاً للوظائف والسلطات فى قطاع طويل وعريض من السادة المواطنين وصنعت صلاحيات استبدادية وحقوقاً تعسفية لكثيرين من المنافقين والشماشرجية المعروفين للجميع، وصنعت قضايا الحسبة التى تصر الدولة على استمرارها، رغم أنها دليل قاطع على تخلف المجتمع الذى يقبلها.
الأشد قسوة فى هذا السياق التعس هو القدرة الفائقة لأصحاب هذا النشاط الإجرامى على اختراق وتحطيم كل الحواجز والتغلغل فى أجهزة الدولة التى تصنع لهم قوانين وحصانة وتعمل فى أحيان كثيرة على الإطاحة بكل من يحاول التصدى لهم، والتفاصيل يعرفها الجميع ويمكنك الإحاطة بملخصها من خلال فيلم «رصيف نمرة خمسة»، الذى لعب بطولته فريد شوقى وزكى رستم، وتستطيع الدولة إدراك تفاصيلها لو عقد الكبار جلسة ودية مع الأستاذ «نخنوخ» وسألوه عن زبائنه.