وقعت الواقعة.. «باسم يوسف» يعود بعد غياب ليواصل تقديم برنامجه، فيضع النخبة الإعلامية ومعظم المشاهدين المعجبين به فى مأزق فاضح: إذ كيف يغضبون منه الآن ويرفضون المحتوى الإعلامى البذىء لبرنامجه، وهم أنفسهم الذين هللوا له عندما كان يقدم المحتوى ذاته فى عهد الرئيس الإخوانى محمد مرسى؟
وبأى عين يطالبون الآن بوقف «البرنامج»، وهم أنفسهم الذين تحلقوا حول «باسم» وساندوه وتظاهروا من أجله أمام دار القضاء العالى، عندما استدعته النيابة الإخوانية للتحقيق معه فى جرائم سب وقذف وإهانة الرئيس واستخدام ألفاظ وإشارات جنسية خادشة للحياء؟
نعم هو مأزق فاضح، يصلح أن يكون نموذجاً للتناقض الجهول الذى يميز أداء النخبة الإعلامية، ثم ينعكس فوراً على أداء القراء والمشاهدين الذين يستقبلون إنتاج الآلة الإعلامية ويندفعون معه فى أى اتجاه، دون مقاومة أو دون إعمال العقل، لفرز هذا الإنتاج أو تقييمه قبل اختيار الموقف المناسب، وقد كان «باسم يوسف» بما يقدمه من أول حلقة فجاً وبذيئاً، ومخرباً شديد الوضوح لمنظومة القيم والأخلاق فى مجتمعنا، ولكن كل المعارضين لحكم الإخوان تجاوزوا تماماً عن هذا «الخطر البذىء والسخيف» لمجرد أنهم اعتبروه «أحد أشكال النضال ضد فاشية الإخوان»، وها هم الكارهون للإخوان يتلبسهم «الوعى» فجأة، و«تنقح عليهم» منظومة الأخلاق والقيم الشرقية، فيكتشفون أن ما يقدمه «باسم» ليس أكثر من «بذاءة خادشة للحياء ومدمرة لهيبة مؤسسات الدولة».
والحقيقة أننى كنت واحداً ممن أعلنوا رأيهم بوضوح فى برنامج باسم يوسف، بعد أن شاهدت منه عدة حلقات ضحكت خلالها مثلما ضحك الآخرون، وأدهشتنى مثل آخرين قدرة أرشيف الـ«يوتيوب» الذى استعان به «باسم» وفريق إعداده، على فضح تحولات المثقفين والسياسيين والإعلاميين وكشف كذبهم ونفاقهم للرأى العام، ولكننى بعد الضحك والاندهاش، انتبهت إلى خطورة «المحتوى الإعلامى» الذى يقدمه هذا البرنامج، وانتهى بى الأمر فى توقيت مبكر إلى أن أضعه فى سياقه الصحيح: إنه الوجه الآخر للعملة الأمريكية التى اعتادت أن تصنع حكام دول العالم الثالث، وتصنع فى الوقت ذاته رموز المعارضة لهؤلاء الحكام .. وتسهر على إدارة لعبة «الحكم والمعارضة» بطريقة شديدة التوازن، تؤدى فى النهاية إلى تحقيق أهداف ومصالح أمريكا فقط، ودفع البلد الذى تدور فيه «اللعبة» فى مسار محدد لا يغادره، وخلال حكم مرسى وحكم مبارك من قبله كانت أمريكا وسفارتها الشيطانية هى الراعى الرسمى لمكتب إرشاد الجماعة ومندوبها فى قصر الرئاسة، وهى الراعى الرسمى أيضاً لباسم يوسف وبرنامجه البذىء، مثلما كانت هى الراعى الرسمى لنظام مبارك ومعارضه الشرس أيضاً أيمن نور!
وقبل شهرين كاملين من عزل «مرسى» كنت ضيفاً فى برنامج «مصر الجديدة»، مع الإعلامية العزيزة الدكتورة نائلة عمارة، وكان الخبر الذى يتصدر كل الفضائيات آنذاك هو مثول باسم يوسف للتحقيق أمام النيابة، بأمر من النائب العام الإخوانى طلعت عبدالله، وعندما سألتنى الدكتورة نائلة عن رأيى فاجأتها بقولى: «إننى لست من المعجبين على الإطلاق بهذا البرنامج.. بل أراه لا يقل خطورة على مصر والمصريين من حكم الإخوان.. ولكننى الآن متضامن مع حقه فى التعبير حتى تنتهى أزمته، وبعدها سأعلن تفاصيل موقفى من هذا البرنامج».
ولأن ما حدث فى مصر فى الشهرين الأخيرين من حكم مرسى، وبعدهما، كان أكبر وأعمق من أن أتركه وأعود لباسم يوسف، ثم لأنه اختفى فترة طويلة قبل أن يطل علينا من جديد، فقد سقط تماماً من اهتماماتى، ولم أتوقف لأسجل موقفى من هذا الإسفاف السياسى والإعلامى الذى يتخذ من «الحق فى التعبير» وسيلة لتحطيم هيبة أهم مؤسسات الدولة، فى منعطف شديد الخطورة تقف فيه الدولة على شفا هاوية التفكك والانهيار.. والأهم من ذلك أنه يكسر «الساتر الأخلاقى» الأخير فى منظومة القيم الأسرية والعائلية، بألفاظ وإشارات مقززة، كما يضيف للقمامة الفنية -فى الغناء والموسيقى- نوعاً من الشذوذ الفنى الغربى، باعتباره النموذج الأصلح للتقديم فى «برنامج» على هذا القدر من الذيوع والانتشار.
بقيت نصيحة أقدمها لباسم يوسف وللمعجبين به والمدافعين عنه فى آن واحد: هناك كتيب صغير اسمه «التنوير الزائف» لمؤلف رائع هو الدكتور جلال أمين، أصدرته دار المعارف عام 1999، أرجوكم اقرأوا هذا الكتيب الصغير الحجم والعظيم القيمة، خصوصاً الفصل الذى يحمل عنوان «تصغير الكبراء».. فلربما وقفتم على أن «المحتوى الإعلامى» الذى يقدمه «باسم» لا يمت بأدنى صلة لحرية التعبير التى نتمناها.. بل هو فى الحقيقة ينتمى إلى نوع من «مهانة أمة هانت على نفسها إلى درجة استعذاب هذه المهانة»!