يبقى التحدي الأكبر للأطباء ومقدمي الخدمة الصحية هو ألا تتأثر الخدمة الطبية التي تقدمها للمريض بأية مؤثرات خارجية، يجب ألا تؤثر حالتك الصحية أو النفسية على الخدمة التي تقدمها للمريض، لا ذنب للمريض أنك مرهق أو مريض أو أن المدير خصم لك ثلاثة أيام من راتبك أو أنك لا تملك الوقت الكافي.
أيضا لا يجب أن تتأثر الخدمة بانطباعك عن المريض أو بسوء معاملة المريض أو المرافقين لك،فكم من مرة أكشف على مريض وأرد على أسئلته بهدوء بعد دقائق من شجار مع أحد مرافقيه يكاد يصل للتشابك بالأيدي، لا دخل لي بالضارب والمضروب كلهم مصابين لا شأن لي بالجاني والمجني عليه، كم من مرة أتحمل سباب المريض وأكمل عملي، لا أستطيع أن أظهر التأفف مما قد يصيبني من رائحة المريض أو من سوائل جسده.
حسنًا لست ملاكًا، لا بد من استثناءات، لا بد من مرات أفقد فيها أعصابي وأخالف هذه القواعد، من ضمن تلك المرات- التي لا أفخر بها- موقف لا أنساه أبدًا:
الثالثة صباحًا..
أقف في الخارج أستمتع بسكون المكان بعد ليلة صاخبة.
"توكتوك" يعبر بوابة المستشفى مسرعا ويتوقف أمام باب الاستقبال، تنزل منه سيدة مسنة، يخرج السائق ساقا واحدة ولا ينزل.
اقتربت لأرى ما هناك
" مش عارف أحرّك رجلي خالص"
حاولت مساعدته لكني اكتشفت أنه بالفعل غير قادر على تحريكها علاوة على أن ساقه مغطاة بالدماء.
ناديت العامل ونقلناه للداخل حيث اكتشفت إصابته بجرح قطعي عميق أسفل الركبة وقطع كامل بوتر العضلة رباعية الرؤوس.
- "فيه وتر مقطوع محتاج يتخيط"
* "يعني همشي عليها تاني يا دكتور، طمّني"
- "بسيطة إن شاء الله، ما تقلقش"
ذهبت للاتصال بنائب العظام في السكن والذي طلب تحويل المريض لطوارئ المستشفى الجامعي وعند عودتي للمريض وجدت السيدة التي جاءت معه واقفة أمام الغرفة تهمهم "منك لله، ما هو من عمايلك السودة، هو انت عملت قليل، ربنا ينتقم منك".
فسألتها "هو انتي تبقي له إيه يا حاجة؟".
فأطرقت قليلا ثم قالت "أمه".
قالتها بصوت خفيض متقطع لكنه زلزلني حقا فوقفت أنظر لها مشدوهًا. شعرت بالدم يتجمد في عروقي، ترى ما الذي اقترفه ذلك البائس ليجعل أمه ذاتها تدعو عليه ولا تبدي أي تعاطف مع إصابته البليغة، فتحت فمي لأسألها ولكني لم أستطع التفوه بكلمة واحدة، فمال العامل عليّ قائلًا "هو انت متعرفوش؟! ده أكبر بلطجي في المنطقة كلها".
دخلت لأخبره بأمر تحويله
* "ليه يادكتور، إنت مش قلت إنها بسيطة؟". - "كنت بضحك عليك".
* "يعني مش همشي عليها تاني؟".
- "لااا، كل سنة وانت طيب".