قبل ظهور ثورة الاتصالات وشيوع استخدام الموبايل والكمبيوتر وشبكة الإنترنت، كان المواطن المصرى التقليدى صاحب الأسرة والوظيفة معروفاً لدى الكافة بالحرص على العودة للمنزل حاملاً البطيخة والجريدة، وكان السادة رجال الشرطة يعتبرون أن حيازة البطيخة وإحدى الصحف دليل على هوية المواطن، وبالتالى لا يسأله أحدهم عن البطاقة الشخصية فى حالات الاشتباه أو التحرى فى الشوارع ووسائل المواصلات، وفى فصل الشتاء كان الموظف المصرى يحمل كيس الفاكهة أو بعض أرغفة الخبز مع الجريدة بدلاً من البطيخ، وكانت جريدة «الأهرام» وحدها تكفى للتعرف على الموظف الحكومى حتى لو تقاعس فى بعض الأيام عن شراء البطيخ أو كيس الفاكهة أو أرغفة الخبز، ظلت الأمور على هذا الحال حتى منتصف عهد الزعيم المزمن محمد حسنى مبارك، حيث شهد أحد الأعوام ارتفاعاً طفيفاً فى أسعار البطيخ، ويقال إن السيد الأستاذ الدكتور مصطفى الفقى كان فى ذلك الوقت مستشاراً لفخامة الرئيس المذكور، ونصحه بأن يتناول مسألة أسعار البطيخ فى خطاب يوجهه إلى الأمة، إلا أن السيد الرئيس وجه اللوم للشعب فى ذلك الخطاب، وقال إن «اللى معاهوش ما يلزموش واللى مش لاقى تمن البطيخة يستغنى عنها بدل ما يشتكى»، وقال أيضاً إن المواطن المصرى سفيه ومسرف لأنه يضع عشر ملاعق سكر فى كوب الشاى الواحد! عقب هذا الخطاب التاريخى تقلص ظهور ثالوث الموظف والبطيخة والجورنال فى الشارع المصرى، حيث خشى بعض الموظفين اتهامهم بالرشوة والتربح حال عودتهم للمنزل بالبطيخ بعد خطاب الرئيس، وعجز آخرون عن شراء البطيخة اليومية أو الأسبوعية لارتفاع ثمنها.
وبعد فترة من تراجع أسهم البطيخ فى ثالوث الموظفين، تراجعت أيضاً جريدة «الأهرام» عقب ظهور الصحف المستقلة مثل «الدستور» و«المصرى اليوم» وغيرهما، وصار قطاع كبير من السادة الموظفين يعود إلى المنزل بإحدى هذه الصحف بدلاً من «الأهرام» أو «أخبار اليوم»، حققت الصحف المستقلة نجاحاً وازدهاراً واسع النطاق قبل وأثناء وبعد أحداث يناير 2011، ثم تراجعت فى أعقاب المعجنة التى شهدتها البلاد أثناء حكم الإخوان وبعد إزالتهم، ويقول الخبراء والمتابعون وأهل المهنة إن سبب تراجع الصحافة الورقية يرجع أساساً لانتشار الوسائط الإلكترونية لدى الغالبية العظمى من قراء الصحف، حيث يكتفى كل هؤلاء بمتابعة جميع الصحف اليومية والأسبوعية على المواقع الإلكترونية دون الحاجة لشراء النسخة الورقية كما كان يحدث من قبل، ويقال أيضاً إن هذه الظاهرة لا تقتصر على مصر ولكنها تعم العالم كله، وهو ما أدى إلى توقف صحف ومجلات عالمية شهيرة عن الصدور الورقى نتيجة التقلص الكارثى فى حجم التوزيع ما يكبد تلك المؤسسات خسائر فادحة.
حتى تستعيد الصحافة الورقية جاذبيتها وتأثيرها وشعبيتها، ينبغى ألا تحاول منافسة المواقع الإلكترونية فى المجال الخبرى ،وتكتفى فقط بمتابعة الأخبار التى يعرفها الناس وقت حدوثها دون انتظار صدور العدد اليومى من أى جريدة، ويجب تخصيص الموقع الإلكترونى للأخبار والمقالات دون المتابعات والتحقيقات وما نحوها، والأهم من هذا أن تحاول هذه الصحف إشراك كل فئات الناس فيما تطرحه من قضايا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، فى المجال السياسى -مثلاً- يمكن متابعة أفكار وآراء الناس فى أماكن تجمعاتهم مثل المقاهى الشعبية والمحال التجارية ووسائل المواصلات العامة وغيرها، وفى المجال الاقتصادى تشرك المترددين على البورصة والبنوك والغرف التجارية والأسواق وكل فئات التجار والمنشآت الصناعية على اختلاف أحجامها، وفى مجال التعليم تجرى تحقيقات ميدانية حقيقية بين التلاميذ والطلاب والمدرسين والأساتذة وأولياء الأمور حول مشاكل وعيوب النظم المطبقة فى المدارس والجامعات، ونفس الشىء فى كافة المجالات.
هذه الطريقة فى معالجة القضايا من خلال التحقيقات والمتابعات الميدانية سوف تتكفل بإعادة الازدهار للصحف الورقية حين يجد رجل الشارع أنه موجود على صفحات هذه الجرائد، وأنها وسيلة حقيقية لنقل صوته ورأيه وشكواه لسائر هيئات الدولة، وأن كلامها ليس «كلام جرايد» كما يشاع ولكنه كلام حقيقى على لسان ناس حقيقيين، الصحف لن تتمكن بالطبع من تغطية كل مشاكل المائة مليون مصرى ميدانياً، ولكنها تستطيع الوصول إلى نماذج من كل فئة، وتستطيع زراعة الأمل فى قلب أى مواطن ينتظر كل يوم وصول إحدى الصحف إليه ليدلى برأيه أو يطرح شكواه، وبهذه الطريقة سوف يعود الناس لانتظار الجريدة الورقية كل صباح لمطالعة ما يقولون هم أو نظراؤهم فى شتى شئون الحياة، ومهما كانت الصعوبات التى ستواجه الصحف حال انتقالها من العمل المكتبى إلى الطابع الشعبى الميدانى المباشر، فإن العائد سيكون مثمراً بالتأكيد حين يؤدى التواصل مع الشارع إلى عودة الازدهار للصحافة الورقية وإضفاء مصداقية حقيقية على كل ما تنشره، وربما تخرج البلاد فى وقت لاحق من الأزمة الاقتصادية وتنتعش أحوال الموظفين ويعود الثالوث المصرى القديم، الموظف والبطيخة والجورنال، للحياة من جديد!