تعجبنى كثيراً وتثير فضولى وأتمنى أن أعيشها صورة العيون المتلهفة والمتشوقة والمليئة برغبة الاستحواذ، والقلوب التى تتعالى دقاتها والصدور التى ترتجف صعوداً وهبوطاً فى لحظات الانفعال والمنافسات واللهفة والإحباط أو سعادة الفوز والحصول على الغنيمة التى تكسو ملامح مرتادى المزادات، ويبادر إلى ذهنى دائماً سؤال بديهى ألا وهو لماذا عرض صاحب المقتنيات تلك الأشياء الثمينة التى يتهافت عليها الجميع ويتبارزون من أجل الفوز بها؟ وهل من الممكن أن نشهد فى يوم ما مزاد (حياة للبيع)؟ فما يعرض فى أى مزاد ليس إلا مكونات وجزيئات الحياة والذكريات والآمال والآلام والأفراح والرحيل والاحتفالات والولائم والمناصب ومقاعد الدراسة وغرف الاجتماعات والأعمال وغرف المسافرين التى كانوا يغلقونها أيام الزمن الجميل انتظاراً للزائرين والبلديات وأهل العريس، ولا مانع من زملاء الأب الذى أحيل للتقاعد وجاءوا لمواساته تحت عباءة التهنئة، فهذه المعروضات التى تنتقل من يد لأخرى فى رحلة بحث وفحص مهين لما يمكن أن يختبئ داخلها من عيوب أو مميزات أو خبايا فى مرحلة الفحص والتقييم التى تسبق عملية الشراء - أقول هذه المعروضات كانت فى الأصل جزءاً مهماً من حياة صاحبها إلا أن هناك عوامل كثيرة لعبت أدواراً فى تلك الرحلة والصحبة دفعته إلى التخلى عنها وعرضها للبيع، مثلها فى ذلك مثل البشر، ففى حياتنا قد نلتقى بأشخاص يملكون أرواحنا وقلوبنا إلا أن الأيام والليالى والعلاقات المتشابكة قد تدفعنا للتخلى أو التنازل عنها للغير دون أدنى ألم أو ندم، فالأرواح لا تحتمل أن تظل ساكنة أجساداً تؤذيها، كما أن القلوب تشبه النباتات فى طبيعتها البيولوجية وتحتاج رعاية واهتماماً بخلاف الماء الذى يرويها والأكسجين الذى تتنفسه، فإذا لم تجد مطالبها واحتياجاتها فمن الحمق أن تستمر فى هذا الاستنزاف، ولا بد أن ترحل وأن تطلب اللجوء لمن يستحقها قبل أن يكسرها الحزن ويميتها، وإذا أراد أى منكم أن يشعر بمعنى تلك الكلمات وحقيقتها فيكفى أن يتجول وسط أوراق قضايا الأحوال الشخصية، التى أصبحت تصنف الآن تحت اسم محكمة الأسرة، وإن لم يشأ وأراد أن يبتعد عن تلك القسوة ومشاهد موت العشرة والحب والحياة المشتركة والضمير وتمزيق صور الزفاف وحرقها وتحليلات الأنسجة بحثاً عن نسب يرفضه بطل قصة الحب، فيمكنه أن يتجول وسط أرفف المكتبات ليقرأ حكايات العشق والهوى التى انتهت بالفراق وأنتجت لنا أجمل وأصدق الكلمات والقصائد الشعرية والألحان واللوحات، وتحولت من إحساس إلى وحى وإلهام لأعمال فنية وإبداعات تعيش وسط الناس أكثر بكثير من تلك المشاعر المتحولة والمتقلبة والبائسة، وعن هذه المعادلة الصعبة التى قد تدفع الإنسان دفعاً لتقديم ما عاش من حياة لأحد المثمنين القضائيين لطرحها فى مزاد علنى - قال الفيلسوف (مارك ترين): (إن الانسجام أساس التواصل وبث روح الاتفاق والاتساق والمودة فى أوصال العلاقة)، وللحق أن هذا ما نبحث عنه جميعاً فى حياتنا ألا وهو أن نكتشف نقاط الاهتمام المتبادل أو الأرضيّة المشتركة، وأن نصل لاتفاقات ونعمل ونعيش معاً فى تناغم، وأن نستمتع بتعاملاتنا طوال الطريق بسهولة، وهذه الكلمات لا تنطبق على العلاقات الإنسانية فقط بل على جميع العلاقات بالأماكن والأعمال والأشياء والأوطان، لأن المشاعر لا تتجزأ ولا تختلف ما دام صاحبها شخصاً واحداً، أقول هذا ولكم أحبائى وأدعوكم لمصالحة جزيئات ومكونات حياتكم حتى تبتعدوا بكل ذلك عن المزايدات والبيع وحتى لا تضطروا فى يوم من الأيام أن تعرضوا ما لديكم فى مزاد علنى أو مناقصة داخل مظروف مختوم وتكون فى النهاية ملكاً لصاحب أعلى سعر.