للمشردين «بيت» يحميهم.. وداعاً للشارع
حسين آفدال
بيوتهم العراء والأرصفة.. فى حديقة عامة ينامون.. فى جراج عمومى يكون مأواهم أو تحت كوبرى أو خرابة فى ظلمة تامة.. المشردون العجائز فى شوارع مصر، الهائمون على وجوههم دون أهل ولا أربعة حيطان تضمهم تكفل لهم فكرة الستر.. يتعرضون أحياناً لمضايقات المارة وبرد الشتاء وحرارة الصيف، تحاصرهم روائح القمامة بأماكن وجودهم، فضلاً عن قطط وكلاب ضالة.. ظاهرة تتفاقم منذ سنوات بلا حل، بدأت وزارة التضامن أخيراً فى احتوائها، عبر خطط لتوفير الرعاية والحياة الكريمة لمواطنين تقدمت بهم السن بلا حماية مكانية.
«التضامن» وضعت برنامجاً لتطوير دور رعاية المسنين الموزعة على 22 محافظة، تتمركز معظمها فى القاهرة والجيزة والإسكندرية بنسبة 67.2%، ووفقاً لأحدث إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عن عام 2017، فإن تعداد كبار السن فى مصر يقدر بـ6.3 مليون نسمة فوق سن 60 عاماً بنسبة 6.9% من إجمالى السكان، وتقوم الوزارة بمتابعة ورصد كافة دور رعاية المسنين على مستوى المحافظات لرصد المخالفات.
«التضامن» تؤوى العجائز.. وتطلق برنامجاً لتطوير دور رعايتهم
وقال مسئولو وحدة التدخل السريع لإيواء المشردين إن مهمة دور الرعاية حالياً هى حماية المشرد أو النزيل وإجراء الكشف الطبى عليه، ليعيش حياة آدمية، ومن جانبهم أكد نزلاء إحدى دور الرعاية لـ«الوطن» أنهم يشعرون بالأمان التام داخل الدار بسبب توفير حياة كريمة لهم من مأكل وملبس ورعاية صحية، بعدما تعرضوا لأذى نفسى وبدنى خلال وجودهم فى الشوارع.
«آفدل»: عشت فى النمسا والمكسيك 40 عاماً وأقسمت على قضاء بقية عمرى فوق الرصيف
حياة بدائية بلا خصوصية أو راحة أو أمان، جسد هزيل تكسوه ملابس بالية مليئة بالغبار، الوهن يعلو الوجه، والمرض زحف تحت الجلد، وابيض الشعر الكثيف، هذا كله محاط برائحة كريهة تحتل المكان المحيط، لم يجد مأوى سوى الرصيف، الذى يحنو عليه أسفل كوبرى أكتوبر، يعيش على بقايا طعام الغير، يلتحف ببطانية متسخة ليلاً يضعها جانباً نهاراً، يمسك بزجاجتى مياه فارغتين يملأ كلتيهما من ثلاجة قريبة منه فى الشارع، مسالم مع الظروف، وحيد يضع فى كبرياء اليائسين «رجل على رجل»، غير عابئ بمستقبل أو مصير.
«أنا كردى عراقى.. اتجوزت مرة واحدة من مكسيكية، واتبنيت 12 ولد لأنى عقيم، أتحدث الألمانية والإسبانية والإنجليزية، ألفت عدداً من الكتب أبرزها (الصراع بين الحق والباطل)، مترجم بكل اللغات أهمها المكسيكية والألمانية».. هكذا بدأ «حسين آفدل خوخى»، بحسب ما كتب اسمه بخط يده، حديثه لـ«الوطن».
«حسين آفدل» من مواليد العراق عام 1950، جاء إلى القاهرة فى 2016، يعيش على المياه فقط، حسب قوله، معرباً عن حبه الشديد للإمام الأكبر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوى، ناطقاً أحياناً بعبارات ليس لها علاقة ببعضها: «صدّام الحقيقى موجود وما فى موت»، و«ما عندى أسرة.. قتلوهم جميعاً»، و«يريدون أن يأخذوا منى مفاتيح البشرية»، «أحب القراءة، قرأت كثيراً لأنى كنت مدرس لغات إنجليزى وألمانى، وأقرأ القرآن 10 مرات»، وبين جملة وأخرى ينطق بلغات مختلفة ما بين تركى وألمانى وإنجليزى، معترفاً بأن سبب بقائه وحيداً هو أن «طباع الناس ليست جيدة هذه الأيام».
«الكرة الأرضية كلها ملكى، أنا فى أرذل العمر ولا أريد التعامل مع الناس أو الدول والقارات، أتعامل مع الله فقط، أنا كردى مسلم ولا أنسى جذورى»، أكدها علينا مراراً، مضيفاً و«مالى علاقة بتسميات الشافعية والحنفية والحنبلية، ولست مشغول بتقسيم السنة والشيعة، وكنت موجود فى المكسيك وقت الحرب على العراق، وأحب مصر منذ نشأتى بسبب قراءتى عن المصريين القدماء، الشعب المصرى على مر تاريخه مسالم وعظيم»، ويحكى «حسين» لـ«الوطن»: «عشت فى النمسا والمكسيك 40 عاماً، وجئت إلى مصر منذ سنة و6 أشهر»، مشيراً إلى أنه تعرض لسرقة أمواله وجواز سفره: «مصارى اتسرقت 25 ألف دولار».
«الوطن» ترصد رحلة إيواء «مُسن عراقى» تبنّى 12 ولداً ويتحدث 3 لغات
«الوطن» كانت مع فريق التدخل السريع، التابع لوزارة التضامن، وهو يعرض على «حسين» إيواءه بدار رعاية، بناء على البلاغ المقدم للوحدة بمساعدته فى توفير حياة كريمة له، إلا أنه رفض العرض فى البداية وبشدة، قائلاً: «المكان مانو مهم، وحالف أقضى ما تبقى من عمرى على الرصيف، ولم أتابع التليفزيون والراديو منذ 60 عاماً، وبمجرد تحرك الفريق بضع خطوات بعيداً عنه، فوجئنا بقدومه مع مصور «الوطن» متراجعاً عن موقفه، توجهنا جميعاً مستقلين السيارة التابعة لوزارة التضامن، وبدأ الفريق بالحديث معه مرة أخرى ليؤكد لهم نفس الحديث الذى قاله سابقاً، وعند وصولنا دار الرعاية بمنطقة الدقى، استقبلتنا المسئولة عن الدار مرحبة بـ«حسين»، الذى تسلمه فريق تابع للدار ليتولى مهمة تنظيفه وإجراء التحاليل الطبية اللازمة للتأكد من خلوه من أى أمراض معدية أو مزمنة كالضغط والسكر، وتفتيش ملابسه أولاً، ثم عرضه على الإخصائية النفسية بالدار، للتعرف على حالته، وفقاً لكلام المسئولة، انتظرنا نحو نصف ساعة، لنفاجأ بابتسامة عريضة ارتسمت على وجه «حسين»، بعد أن قام عدد من العاملين بدار الرعاية بتحميمه وتهذيب شعره وحلق ذقنه وقص أظافره، ليبدو شخصاً آخر غير الذى كان أسفل كوبرى أكتوبر، وجه جديد ورائحة جديدة، بعد رحلة استعادته من غبار التشرد، قال: «رغم جمال المكان لكن أريد العودة للشارع»، شارداً بذهنه، ثم يستأنف: «هذه الدار ملكى والشارع ملكى، لذلك أود العودة مرة أخرى للشارع»، لكن إحدى المسئولات بالدار جلست مع «حسين» لإقناعه بالبقاء معهم، وتوفير كل احتياجاته، وأكدت عبير صلاح، إخصائية اجتماعية وعضو فريق التدخل السريع بوزارة التضامن، التى أشرفت على إيواء «حسين»، أنه مصاب باضطراب نفسى، وليس «زهايمر»، مشيرة إلى أنه تعرض لصدمات نفسية كثيرة فى العراق، ربما نتيجة الصراعات والحروب، كما أكد محمد يوسف، مسئول وحدة التدخل السريع، أن وظيفتهم تقتصر فقط على نقل الحالة من الشارع إلى الدار، لافتاً إلى أنه يتم التحرك إلى الشوارع والحدائق والميادين وفقاً للبلاغات المقدمة من الأشخاص على خط الشكاوى التابع للوزارة.