استمَع إلى خطيب الجمعة الذى يحبه وهو يُذكِّر بكلمة الفقيه العظيم أبوحنيفة النعمان «الحج أعظم العبادات»، تعجب لهذه الكلمة، اشتاقت نفسه لحج بيت الله وسعد لقبوله ليكون ضمن وفد الحجيج، شعر من يومها بحنين فطرى نحو البيت الحرام الذى لم تسعد عينه وقلبه برؤيته عياناً، شعر أن قلبه يكاد ينخلع شوقاً لهذه الرحلة دون غيرها، رغم أنه طاف بلاداً كثيرة.
لم يفهم معنى قوله تعالى «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ» سوى اليوم، إنه يشعر بنداء إبراهيم (عليه السلام) وكأنه يخاطبه بأذان الحج دون سواه «وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ».
نسى كل الأموال الكثيرة التى دفعها، ودع أهله وأسرته وارتدى ملابس الإحرام من البيت، شعر أنه أجمل ثوب ارتداه طوال عمره، عجب لذلك الشعور فلطالما ارتدى أفخر الملابس وأغلى الماركات من باريس ولندن ولكنه لم يشعر بهذه اللذة، ملابس الإحرام رخيصة وبسيطة جداً ولكنه سرعان ما شعر معها بأنه خلع أثواب الزور والدنيا ومعانى النفاق من قلبه.
تغيير الظاهر إلى الأفضل يغير الباطن أيضاً، كلاهما مرتبط بالآخر، تذكر أنه بنفس الملابس تقريباً سيخرج من الدنيا، شعر أنها البروفة الكبرى للخروج من دار الباطل إلى دار الحق ومن أرض النفاق وصحبة العابثين اللاهين إلى حيث اللقاء العظيم مع الله الكريم وبيته العتيق.
منذ أن لبس ملابس الإحرام وبدأ رحلة الحج وجد لسانه قد كف عن الثرثرة والغيبة والهمز والتفحش الذى أصابه مؤخراً مع ازدياد حدة الصراعات السياسية.
بدأ يهتف بذكر الله، وجد سكينة فى نفسه لم يشهدها من قبل، لم يعد متلهفاً على الدنيا منذ أن ارتدى ملابس الإحرام وكأنه خلع الدنيا من قلبه مع خلعه لرتبه ونياشينه وملابسه التى ميزته دوماً عن الآخرين.
ركب الطائرة وهو يكبر ويلبى بلسانه وقلبه، وكأنه يعاهد ربه «لبيك اللهم لبيك، لبيك فى الشدة قبل الرخاء، وفى العسر قبل اليسر، وفى سفرى وترحالى، لبيك وأنا فى السلطة أو بعيداً عنها».. عجب لهذه المعانى التى تدفقت على قلبه فجأة.
فى الطائرة، شعر أنه أشبه بملاك معلق بين السماء والأرض لا هم له سوى ذكر الله ومحبته، نسى أسرته وأولاده ومنصبه الحساس وأمواله.
دخل مكة فى شهر أغسطس، أى فى شدة حرها، فكر فجأة مع نفسه قائلاً: هل كان بلال وياسر وعمار وصهيب الرومى يعذبون فى هذه الصحراء القاحلة؟! شعر بعظمة هذا الجيل وأنه أوصل إلينا الإسلام بعد تضحيات جسام ونحن نضيعه بسهولة. تذكر أنه لولا هاجر وابنها الرضيع ما قامت هذه الحضارة العظيمة بمكة وما جاءت هذه الملايين إليها.
وصل إلى اللحظة الفاصلة فى حياته حينما نظر إلى الكعبة المشرفة، دعا لها، ودعا عندها، وقف مبهوراً أمامها كما لم ينبهر بشىء قبلها، وقعت عظمتها فى قلبه أكثر من باريس ونيويورك ولندن وبرلين.
تذكر مليارات المؤمنين الذين طافوا بالبيت قبله، وقولة الملائكة لآدم حينما طاف به «لقد طفنا قبلك بهذا البيت منذ ألفى عام»، وتذكر كلمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأبى بكر: «حج البيت ثمانون نبياً منهم هود وصالح ليس عليهم سوى رداء وإزار». شعر كأنه يسترجع تاريخ الإيمان، كان يسمع قديماً أن ركن الحج هو ركن إعادة تاريخ الإيمان والرسالات، خاصة تاريخ الأسرة الإبراهيمية العظيمة لكنه لم يبدأ فهم هذا المعنى سوى اليوم، حزن لأن عقله وفؤاده فاته الكثير من المعانى الخفية الرائعة.
حرص بعد نهاية رحلة الحج على أن يذهب إلى غار حراء وغار ثور ومكان بيعة الرضوان، ويذهب إلى موطن شهداء أحد، هناك تفكر فى جهد النبى العظيم وأصحابه الكرام فى خدمة هذه الرسالة النبيلة، رسالة هداية الحق إلى الخلق.
عاش مع كل هذه الأماكن وأشخاصها النبيلة الرائعة بوجدانه، عاش مع هاجر (عليها السلام) وهى تطوف بين الصفا والمروة يحفها الخوف على رضيعها إسماعيل ويحدوها الأمل فى إغاثته، لتعلمنا جميعاً السعى واتخاذ الأسباب وإفراغ الوسع والجهد.
تذكر وهو يرمى الجمرات صد الأسرة الإبراهيمية جميعاً للشيطان ورفضهم لوسوسته ومحاولة وصايته عليهم، كلهم رجموه، نجحوا فى كل الاختبارات، وها هو يعيد سيناريو تاريخ الإيمان لآل إبراهيم الخليل، وها هو اليوم يذبح الأضحية وكأنه ينهى كما أنهى الله مع إبراهيم وإسماعيل عهد التضحية بالإنسان، فالإنسان أغلى من أن يضحى به من أجل أى شىء، جماجم الناس ليست لعبة لتصنع أمجاد الساسة والزعماء، لا تضحية بالإنسان بعد اليوم فهو أغلى من أى مشروع سياسى أو سلطة.
أدرك عوار كلمة «واجعل من جماجمنا لعزك سلماً»، سلم المجد لا يُرفع بالجماجم والآهات والدماء ولكن بالعلم والإخلاص والجهد والعرق.
شعر أنه جزء من منظومة إيمانية كبيرة بدأت بالملائكة التى بنت البيت وطافت حوله مروراً بآدم ثم إبراهيم وأسرته ثم محمد (عليهم السلام) ثم ملايين المؤمنين الذين عشقوا هذه الأسرة الإبراهيمية العظيمة وحاولوا تقليدها ظاهراً وباطناً.
نظر حوله فوجد الأفريقى الأسود والصينى والآسيوى الأصفر، والأوروبى الأبيض والعربى القمحى، مئات اللغات واللهجات تدندن من حوله، شعر أن الإيمان بالله لن يقهره الكفر أو الإلحاد، كان يظن ضعف الإيمان والمؤمنين واليوم شعر بقوتهم وكثرتهم.
ركن الحج هو الركن الوحيد الذى يجسد معنى «الأمة الواحدة»، وجد الإندونيسى أمامه والكينى والجنوب أفريقى والصومالى حوله، والأمريكى والألمانى والبريطانى عن يمينه ويساره، والماليزى والتركى والقطرى والسعودى والعراقى بجواره، شيعة وسنة وصوفية وسلفية حوله، جمعهم الزى والمناسك والشعائر الواحدة، لا أحد هنا يستطيع أن يميز نفسه عن الآخرين.
عجب من أن قرابة خمسة ملايين حاج اجتمعوا فى هذا الحيز الضيق ورتبت أمورهم على أكمل وجه بأبسط الإجراءات، شعر أن أمة محمد كلها معه هناك إن لم تكن بجسدها فبقلوبها.
ما أجمل هذه الجموع حينما تركت صراعاتها وإحَنها ونزاعاتها وودعت السياسة وقذارتها، فتوحدت قلوبها، مجرم من يستحضر إحن السياسة فى هذه المواطن.
بكى كثيراً ورق فؤاده بعد طول قسوة، كم صارح ربه بذنوبه التى غش فيها الخلائق، عند الله لا مفر من المكاشفة والتوبة الحقيقية، هنا لا تصلح المخادعة.
فى المدينة تأدب هناك بأدب النبوة بعد طول غفلة، عاش مع «لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ»، زار النبى مراراً، ومعه أبوبكر وعمر، أدرك أن قدر الله وضعهم إلى جوار بعضهم أحياءً وأمواتاً لا انفصال بينهم، فإما أن تقبلهم جميعاً أو ترفضهم جميعاً.
ذهب إلى البقيع، تمنى أن يُدفن معهم، شعر بعظمتهم وهم فى قبورهم، أخذ يخاطب بعضهم واحداً تلو الآخر، حاول أن يعيش مع سيرتهم وكأنه يستمع إليهم وهم يحكونها.
شعر أنه وُلد من جديد، وأنها كانت حقاً «رحلة العمر» بكى مراراً فى لحظات الوداع للكعبة ومكة والمدينة وللأسرة الإبراهيمية وللرسول الكريم وصحابته الأطهار (عليهم السلام).