لن تكون الحدوتة التى تم تأليفها حول «نظمى» المعتوه الذى ألقى بطفليه فى النيل آخر الحواديت.. فقد قالوا إن النائب العام أطلق سراحه، وهو برىء، وقد عوقب بقتل أطفاله من قبَل عصابة كبيرة لسرقة الآثار تديرها قيادات فى «الشرطة»!! ولكن هناك ضباطاً شرفاء «الحمد لله» اكتشفوا الحكاية، وخلاص كده الراجل براءة. وانتشرت الحدوتة انتشار النار فى الهشيم على المواقع، حتى قامت مظاهرات فى «ميت سلسيل» تولتها الجماعة إياها وهتفوا «سلمية سلمية»، واستعادوا ذكريات عزيزة على قلوبهم. ويبدو أن تأليف الحواديت خاصية ملازمة للشخصية المصرية بشكل عام على مدى التاريخ، ويحكى «الجبرتى» عن شائعة حدثت عام 1734م بأن يوم القيامة هو يوم الجمعة 26 ذى الحجة: «وفشا الكلام فى الناس قاطبة، حتى فى القرى والأرياف، وودع الناس بعضهم البعض، ويقول الإنسان لرفيقه (بقى من عمرنا يومان)، وأخذ البعض يرتكب الخطايا قبل القيامة، والبعض الآخر يصلى ويستغفر ويتوب، ومن قال لهم إن هذا كذب لا يلتفتون إليه ويقولون إنه صحيح، وقال فلان وقال علان الذين يعرفون فى الغيب.. ولما مضى يوم الجمعة ولم يحدث شىء قالوا إن سيدى أحمد البدوى والدسوقى والشافعى تشفعوا وقبل الله شفاعتهم». ويعلق الجبرتى نفسه على الحدث: «وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء».
وفى عصرنا الحديث كان تأليف الحواديت خاصاً بالحكام، لاسيما الملك فاروق الذى طُبعت عنه كتب عديدة تتحدث عن كائن خرافى كالعنقاء والخل الوفى، واستمرت مع عبدالناصر، وبعد وفاته قالوا إنه عميل يهودى تم تجنيده فى حصار الفالوجا عام 1948، بل زاد البعض أنه قد تم استبداله بآخر يشبهه تماماً من اليهود، ثم خففوها بعد ذلك إلى أن أمه يهودية. وحظى الرئيس السادات بنصيب وافر سمعناه وهو رئيس للبلاد بأنه قد اشترى للسيدة جيهان السادات جزيرة كاملة فى البحر الكاريبى، وأن هذه الجزيرة تزرع قمحاً يدر دخلاً مهولاً، وأنها تمتلك كسّارات حجارة فى الجبل تدر دخلاً صافياً عشرة آلاف جنيه يومياً. ومرت الأيام وعرفنا أنها تسافر للولايات المتحدة لتعمل بالتدريس حتى تستطيع أن تصرف على نفسها. وبعد الثورة المجيدة وصاحبها السيد الأسطورة «خالد سعيد» بدأت الشائعات والحواديت تنهمر، وللأسف من بعض من دارسى التاريخ، فقالوا إن السادات قتل عبدالناصر، وإن مبارك قتل السادات، بل والإسلامبولى لم يُعدم، وشوهد فى مكة رأى العين أثناء الحج.. ومبارك طبعاً قتل السادات بعد أن غمز بعينه «غمزة» وصلت لعين الإسلامبولى، فبدأ فى ضرب النار على السادات ومبارك بجواره تماماً. وبعد تنحى مبارك قالوا فيه ما يملأ هذه الجريدة أسبوعاً على الأقل.. أبسطها حكاية «السبعين مليار»، ومنجم السكرى الذى استولى عليه كله، ولم يتبقَّ فيه شىء. وجاءتنى هذه المعلومة الفريدة من سيدة لا أعرفها حدّثتنى فى التليفون بعد مقابلة لى فى التليفزيون، وشتمتنى طبعاً لأننى أدافع عن رجل حرامى وأنها أبناؤها مهندسون يعلمون الكثير والكثير، وهذه عادتنا فى تأكيد الشائعات، إرجاعها إلى مصادر موثوقة داخل الحدث، فتسمع: «أنا كنت موجود»، «وده كان قدامى»، وهكذا.
وبعد وفاة السيد اللواء عمر سليمان رحمه الله استمرت حكاية عن تفجيره فى سوريا مع عدد من قيادات المخابرات فى العالم، ولا أعلم لماذا سوريا ولم تكن وقتها قد بدأت بعد فى «الرعب العربى»، ثم تبدلت الشائعة إلى أنه حى يُرزق وأنه «لأنه رجل مخابرات عبقرى» قد صنع هذه التمثيلية -ما اعرفش ليه- وأنه لا يزال حياً، حتى قالوا بعد ذلك «الله يرحمه ويديه الصحة»، سخرية من أنفسهم.
وأذكر بعد يناير فى إحدى المقابلات التليفزيونية أن قال لى المذيع إن حبيب العادلى هو الذى فجّر كنيسة القديسين بالإسكندرية، فسألته: وماذا يستفيد العادلى من ذلك؟ قال فى ثقة: «عشان إحنا نخاف ونتمسّك بيه»، فضحكت وقلت له: «يعنى أنا لو عايزة أخوّف ولادى أدلق على وشى مية نار»؟ وبعد تفجير الكنيسة البطرسية، وبعد أن أعلن الرئيس فى الجنازة اسم الإرهابى الذى فجّر نفسه رفض الكثيرون المعلومة، وقالت لى شابة قبطية: «السيسى عمل جنازة ومشى فيها وضحك علينا والحقيقة مش كده»، بل وحتى داخل البرلمان وجدت من يكذّبون هذه المعلومة ويشككون فى الأمن، حتى شاهدنا على الشاشة وجه الإرهابى وأجزاء من جسده أثناء تجميعها من الطب الشرعى.. والكثير الكثير من الحواديت تسير على نفس المنوال. ويبدو أن مزاج المصريين كما أنه مزاج سخرية وتنكيت حتى فى أحلك الظروف، فهو أيضاً مزاج مؤلفى دراما بامتياز، والمصريون قادرون على إدخال عنصر المسئولين بالذات فى كل حدث، سواء كان منطقياً أو مفتعلاً أو ساذجاً، ولدينا القدرة على تحويل «المجرم» إلى بطل، وتحويل قاطع الطريق إلى رمز يكافح الاستعمار، مثلما فعل التراث مع أدهم الشرقاوى، وكذلك لدينا القدرة -خاصة «النخبة»- على التقليل من شأن الزعامات السياسية التاريخية وتشويه صورتها بالحواديت أيضاً. وفى السيرة الهلالية التى تحولت إلى تراث شعبى أصيل كانت القبيلة فى «نجد» وكانوا قطاع طرق وأدّبهم الخليفة المتوكل العباسى، فهاجروا إلى مصر ومارسوا عملهم، فطردهم الخليفة الفاطمى العزيز بالله إلى الصعيد، فضجّ منهم الناس فأرسلهم المستنصر إلى المغرب، ورغم عبورهم على ثلاثة بلاد، فإنهم لم يصبحوا حدوتة وتراثاً شعبياً إلا فى مصر.
عموماً، من الملحوظ أن ازدياد تأليف الحواديت والشائعات يحدث عادة مع تدهور حالة الوعى العام، وأظن أننا -ومنذ يناير 2011- ما زلنا فى إحدى هذه المراحل. وللأسف محاربة هذه الخزعبلات والحواديت الخرافية لا تتم إلا بالإعلام، والإعلام وحده. وأقول للأسف لأننا نعيش فى الحقيقة بلا إعلام قادر على مواجهة هذه الانحرافات، ولا يوجد لدينا «توك شو» مؤثر، ولا قناة إخبارية مؤثرة وقوية ومنتشرة، حتى تحارب هذا الفكر أولاً بأول، وإلى أن يوجد لدينا هذا الإعلام سنعيش فريسة لأوهام الفيس بوك وخزعبلات الواتس آب، وبطولة السيد «نظمى».