كان «معاوية بن أبى سفيان» يؤمن بحكمة شهيرة لخّصها فى عبارة بليغة يقول فيها: «والله لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بينى وبين ملكى». طبقاً لهذه العبارة سيّر «معاوية» أمور حكمه، فترك الحرية كاملة لمن يريد أن يتكلم، حتى لو كان كلامه خوضاً فى الخليفة وطعناً فيه، لكنه كان يتحرك سريعاً وبحسم، عندما يتحول الكلام إلى فعل يحاول من خلاله الرافضون لحكمه إزاحته عن كرسى الخلافة. واجه «معاوية» محاولات تمرّد عديدة واجهها بمنتهى القسوة حتى قضى على كل جيوب النقمة التى استهدفت القضاء عليه. وعندما شعر بدنو الأجل قرر أن يورّث الحكم لولده يزيد، وكان يعلم أن أبناء كبار الصحابة سيرفضون ذلك، لأنهم يرون فى أنفسهم شخصيات أجدر بالجلوس على كرسى الخلافة من «يزيد بن معاوية». اجتهد فى إقناعهم باللين والإغراء، وعندما وجد منهم تململاً لوّح فى وجوههم بالسيف.
فى مدار تفسيره لفكرة عدم الحيلولة بين الناس وألسنتهم، كان «معاوية» يردد أمام أنصاره من بنى أمية مقولة: «الناس أعطونا طاعة تحتها غضب». فارق كبير بين أن تكون الطاعة مشفوعة بالرضا، وأن تكون مقرونة بالغضب. لم تكن طاعة أغلب المسلمين أيام «معاوية» تعبيراً عن الرضا عن أسلوبه فى الحكم، فقد كانت الرعية غاضبة ومحتقنة، لكنها كانت مستسلمة، وذلك لسببين: أولهما أن المسلمين فى تلك الفترة عصرتهم الصراعات والحروب المتتالية خلال أحداث «الفتنة الكبرى»، فكانوا أميل إلى «الاستقرار»، حتى لو أتى على يد حاكم مستبد. خرج أحدهم فى ذلك العصر بعبارة تلخص المشهد يقول فيها: «حاكم غشوم خير من فتنة تدوم». وأما السبب الثانى لاستسلام الرعية رغم الغضب فارتبط بمساحات التنفيس التى كان يمنحها «معاوية» لهم حين كان يتركهم يتكلمون وينتقدون أداءه كيفما شاءوا وشاء لهم الهوى، ما دام كلامهم لا يحول بينه وبين ملكه.
كان «معاوية» يعلم أن أبناء كبار الصحابة غير راضين عن حكمه. «الحسن والحسين» ابنا «على» انحازا إلى أبيهما، ولم يكن أيهما يرى أن «معاوية» أجدر بالحكم من «على»، والأمر نفسه ينطبق على عبدالله بن الزبير بن العوام، الذى كان يرى أن أباه لم يأخذ المكانة التى يستحقها رغم دوره فى نصرة الإسلام، وأن عليه أن يؤدى بشكل مختلف وأن يسعى بكل قوته من أجل الجلوس على مقعد قيادة الأمة الإسلامية. كلام المعارضين فى مكة كان يصل إلى «معاوية» فى الشام. كان يسمع ولا يتحرك، لأنه كان يعلم أن المسألة لا تتجاوز حد «الفضفضة» أو «الجعجعة».
اللكلكة بالكلام أمر لم يكن ليشغل أو يثير قلق «معاوية». فالكلام فى حق الحاكم أمر لا بد منه ولا يخلو منه زمان ولا مكان ولا تجربة سياسية، والناس منحازة بطبيعتها، سواء «مع أو ضد». ومن الطبيعى أن تتجلى انحيازاتهم فى كلمات تعبر عن آرائهم ومواقفهم. «معاوية» كان حكيماً لا يكترث بالكلام المعبر عن انحيازات، ويتحرك فقط إذا شهد محاولة تسعى إلى سلبه الحكم، فى هذه الحالة كان يقطع الألسنة والرقاب.. لسانك حصانك!.