إن كنت تعتقد أن إنتاج أول فرقاطة مصرية ليس إلا امتلاكاً لتكنولوجيا متخصصة أو بسبب تعاون مع شركات أجنبية فعفواً.. أنت واهم أولاً.. معلوماتك قاصرة ثانياً.. القصة قصة نضال طويل استمر عشرات السنين.. منذ تأسيس ترسانة الإسكندرية أوائل الستينات.. إلى ضمير وطنى حى حماها من البيع والتصفية.. الأفضل أن ننقل إليك القصة باختصار شديد وغير مخل.
شركة كوكاكولا وفندق شيراتون القاهرة وشركة النيل للأدوية والشركة العامة لاستصلاح الأراضى كانت الشركات الأولى التى وجد العاملون بها أنفسهم أمام قطار الخصخصة الذى دهسهم جميعاً ليستكمل مسيرته.. خبراء اقتصاديون يؤكدون أنه خلال 17 سنة تخلص الرئيس مبارك وحكوماته من 236 شركة عملاقة بيعت بسعر 33 مليار جنيه فى الوقت الذى كان ثمنها يقدر بـ270 مليار جنيه ويتبقى 136 شركة فقط مملوكة للدولة، بينما يحدد الباحث إلهامى الميرغنى فى دراسة مهمة يستند فيها إلى إحصائيات المركزى للتعبئة والإحصاء بأن الدولة اتجهت للخصخصة فعلياً منذ منتصف السبعينات مع بداية التحول الاقتصادى واتباع برامج التثبيت الهيكلى وظلت الخصخصة تتم ببطء حتى بعد تولى الرئيس مبارك للحكم، لكن دخلت الخصخصة مرحلة جديدة فى التنفيذ منذ عام 1991 بصدور القانون رقم 203 لسنة 1991 بشأن شركات قطاع الأعمال العام، وتوضح الأرقام أنه بين عامى 1991 و2009 تم بيع 407 شركات قطاع أعمال عام وبلغت حصيلة البيع أكثر من 57.3 مليار دولار ونتج عنها وقتها إحالة أكثر من 500 ألف عامل إلى المعاش المبكر!
وبينما كل ذلك يجرى أعلنت الحكومة عام 1997 رغبة فى تطوير وتأهيل شركة ترسانة الإسكندرية العملاقة التى تأسست فى عهد الزعيم جمال عبدالناصر عام 1960، اختيار شركة «بيزنس فوكس» الماليزية المتخصصة فى بناء وصيانة السفن والملاحة البحرية ومؤسسة «سابورا» وهى ماليزية أيضاً متخصصة فى الاتصالات والنقل لتكون شريكة مع الأولى فى شراء أسهم وحصة فى شركة الترسانة! والمدهش أن ماليزيا الحالية تأسست بشكلها الحالى بعد استقلالها بـ6 سنوات أى عام 1963! وبالتالى كان عمر شركة ترسانة الإسكندرية أكبر من عمر ماليزيا نفسها! لكن بلغ التدهور إلى حد الاستعانة بالشركات الماليزية لإعادة تأهيل واحدة من أهم الشركات المصرية الوطنية، ومع ذلك انتهى الاتفاق والتعاون إلى لا شىء.. وربما كان ذلك متعمداً.. فقد تم طرح الشركة للبيع بالفعل فى عام 2002! وبسبب خلافات فى تفاصيل العقد فقدت الشركات الماليزية الصفقة وظل الحال على ما هو عليه حتى رأت قواتنا المسلحة وبما يمتلكه القائمون عليها وقتها وفى كل وقت أنه من الصعب التفريط فى شركة مهمة كترسانة الإسكندرية تخصصت فى إنتاج السفن ومتعلقاتها فى بلد يطل على سواحل مهمة وطويلة مثل مصر ويعمل بها 3500 عامل وتمتلك أسس تطويرها وإعادتها إلى سابق عهدها، فطلبت القوات المسلحة شراء الشركة وعلى حالتها التى كانت عليها وبالفعل انتقلت ملكيتها إلى القوات المسلحة فى أغسطس 2007 على أمل أن يحين الوقت المناسب لتأهليها وانطلاقها من جديد!
نصل إلى عام 2015.. الأنباء تشير إلى احتفال مهم بالإسكندرية.. المعلومات تقول إنه افتتاح كبير لعمل مهم وكبير.. الكثيرون لا يعرفون التفاصيل.. يقف اللواء بحرى مهندس مجدى أمين أمام الرئيس السيسى والحضور ليقول إن «جميع العاملين بالشركة يعاهدون الله والوطن والرئيس على الارتقاء بإمكانات وقدرات الشركة للوصول إلى مصاف الشركات العالمية الرائدة»! ثم يعطى إشارة البدء لفيلم تسجيلى عن تاريخ الشركة والمنعطفات التى مرت بها، ونسمعه ونشاهد الفيلم رحلة جديدة وشاملة من التطوير سعت إلى تحديث النظم الأساسية فى مراقبة وضمان الجودة والسلامة وكذلك الصحة البيئية وتأمين وسائل مكافحة الحريق وتحديث طرق الإدارة وتعيين كوادر جديدة من مهندسين وفنيين مؤهلين وأيضاً رفع كفاءتهم فى كل التخصصات والارتقاء بقدرات وإمكانيات الترسانة فى كل المجالات.. واستكمل اللواء أمين حتى وصل إلى حديث الأرقام فقال «حصلت الشركة على شهادات الجودة وتطبيق معايير الإنتاج العالمية «الأيزو» فى مجال إدارة الجودة الشاملة «19001» وإدارة البيئة «14001» والسلامة والصحة المهنية «18001» وتمت عمليات التطوير بجهود أبناء الترسانة البحرية بالتعاون مع الشركات والهيئات الصينية المتخصصة فى بناء وإصلاح السفن لتصل المحصلة النهائية لزيادة قدرة الترسانة فى بناء السفن لحمولة 20 ألف طن إلى بناء سفن حمولة 57 ألف طن، وزيادة قدرة الإصلاح لتبلغ 80 ألف طن وإنتاج الصلب من 4000 طن سنوياً إلى 40 ألف طن والطاقة الإنتاجية الكلية إلى 230 ألف طن»!
كانت المؤشرات تقول إن حال الشركة المهمة العملاقة لم يعد كما كان.. وباتت المؤشرات أيضاً تقول إن حصاداً آخر لهذا التطوير سنراه قريباً.. كان منطقياً إذن وبعد أقل من ثلاث سنوات على الافتتاح السابق أن نرى أول قطعة بحرية مصرية متطورة بهذا الحجم وبهذه الإمكانيات.. صار الطريق كله ممهداً إلى إنتاج بحرى مدنى وعسكرى مصرى خالص.. وأن تعود الشركة إلى دورها الآخر الذى أُسست من أجله وهو تقديم خدمات إلى 16 ألف سفينة عابرة.
كلام اللواء بحرى مهندس مجدى أمين يبدو سهلاً للكثيرين لكنها نتائج بلغناها بالدم والعرق.. وتبدو قصة إنقاذ الشركة من الخصخصة سهلة وبسيطة لكنها تمت بجهد خارق أقنع القيادة السياسية وقتها باستثناء الشركة ولو مؤقتاً من البيع أو التصفية.. لكن على الجميع أن يعرف أن بطل المشهد الأول كان المشير محمد حسين طنطاوى ممثلاً لجيش مصر العظيم.. وبطل المشهد الثانى هو الرئيس السيسى الذى أطلق طاقة العمل الجبارة بالشركة واستنهض همة كل من فيها.
بقى القول إن عملاً مماثلاً جرى بالتوازى مع شركة أخرى كبيرة ومهمة وبسيناريو يبدو متطابقاً لم تسمح المساحة بالحديث عنه رغم أن خطة المقال كانت للحديث عن المعركتين معاً.. ترسانة الإسكندرية العملاقة.. وسيماف فخر صناعة القطارات وعربات المترو والأولى فى الوطن العربى وأفريقيا والشرق الأوسط، التى ولدت عام 1958 قبل الترسانة بعامين.. وتحل ذكرى تأسيسها الستون هذا العام.. لكن ربما لهذه الملحمة وحدها حديث مستقل!