برغم المناقشات المستمرة منذ سنوات والتى تخللتها فتاوى دينية وندوات ومناظرات أشعلت الصحف ووسائل التواصل الاجتماعى والمنتديات إلا أننى أرفض وبإصرار التبرع بقلبى بعد وفاتى، وللإيضاح أقول أرفض التبرع بأعضاء من جسدى حتى لو كان الهدف إنسانياً بحتاً وسيستفيد آخرون بها ويستمتعون بحياة كانت مهددة بإسدال الستار وكتابة كلمة النهاية.
ولأحبائى أقول برغم ما ردده رجال الدين الإسلامى والمسيحى بأن مثل هذا العمل قد يضيف الكثير للمجال الطبى كما يعتبر من أعمال الخير إلا أن الفكرة نفسها لا تروقنى بالمرة، فهناك محاذير كثيرة ومتنوعة تعوق تنفيذها، كما أراها لا تتناسب إلا مع أعمال الفانتازيا والتى لا تجذب جميع المتفرجين أو القرّاء بل إن هناك نوعية خاصة تلك التى تتابعها وتستمتع بها.
فلكل منا جسد وأنسجة وشرايين وأوردة وشعيرات دموية دقيقة وفصيلة دم ومكوناتها بنِسَب خاصة جداً وأنا لا أصدق ما تعلنه نتائج التحاليل من تطابق الأنسجة بين بعض البشر وأراها رخصة طبية للاقتراب من النهايات الموجعة.
كما أننى سعيدة وفخورة بفصيلة دمى ومكوناته وأنسجته وأعضائه حتى لو أثبتت بعض الفحوصات أن بعضها لا يعمل بكامل كفاءته لكثير من العوامل وعلى رأسها الزمنية.
أنا لا أتصور أن يحصل أى إنسان على قرنية عينى ليرى بها تلك الأشخاص والمشاهد التى أحببتها وعشت بخيالاتها أجمل أحلامى فقد سجلتها وقمت بتثبيت ألوانها على هذا الجزء الذى يبحثون عنه، كما أرفض أن أهب جزءاً من رئتى لأى إنسان بعد أن عشت منذ طفولتى وهى تمتلئ يومياً بهواء حبيبتى (مصر) وبأنفاس أمى وهى تحتضننى بين ذراعيها وكذلك تملأ صدرى برائحة طفولة وبراءة أبنائى وأحفادى وزهور حديقة منزلى وعطرى المفضل الذى يعرف أحبتى وصولى إليهم عندما يسبقنى إلى مكانهم ويملأ هواء المكان.
أما قلبى فهذه قصة لا أستطيع سردها لكم فى مقالة واحدة ولكن سأحاول وأقول فى البداية إنه أغلى ما أملك وترمومتر حياتى ومؤشر سعادتى وحزنى والصوت الذى أدرك عندما أسمعه أننى ما زلت أحيا وأن للحياة بقية وهو الوحيد الذى ينغزنى نغزات الفرح والإنذار والإفاقة والتنبيه والتدليل والتعنيف فهو المطلع على كل ما يدور برأسى من أفكار وأحلام وأمنيات وهو المكان الذى يضم بين ثناياه أحبة العمر كله القريب والبعيد والحقيقة والوهم والونس والغريب والمبهج والمؤلم والراحل والمتشبث والذى يحاول الفرار والآخر الذى يملأ وجوده الحياة وصاحب المشاعر الرقيقة والقاسى والباسم والبشوش والمتنمر والدبلوماسى والجاف واللين والرومانسى والبوهيمى والمتطلع والبائس المنهزم جميعهم يسكنونه فكيف أتبرع به وأوافق أن يراهم أحد غيرى ويتحدث إليهم ويتعرف عليهم وقد يقع فى حبهم أو يؤذيهم برفضه لهم.
كيف أوافق أن يحصل أحد من بعدى على جزء من عظامى التى سيحتفظون بها فى بنك العظام شديد البرودة والتى ستؤلمنى درجات حرارته تحت الصفر والضباب الثلجى داخله وقد تساعد تلك العظام أحدهم على الإمساك بقلم يختلف تماماً عما اعتدت على استخدامه وقد يكتب به ما لا أحب ولا يعجبنى أو يسير إلى مكان كنت أخشاه ويصعد درجات رفضتها أو يؤذى بركلة من قدمه حيواناً كنت أذوب حباً وحناناً عندما أراه، أما قوقعة أذنى فأرجوكم أن تتركوها لى فهى الجهاز الذى استقبلت به أحب الأصوات بداية من دقات قلب أمى والتى علمتنى ما هو الإيقاع وكيف أتحدث وأخرج صوتى للعالم ليعلو ويعلو مع نمو قامتى منذ أيام الصبا وحتى الآن وبها أحببت صوت أم كلثوم وعبدالحليم وما زلت حتى الآن أشعر أنها مكتبة الحب والطرب والذكريات بالنسبة لى. فأنا لن أبيع ولن أتبرع فابحثوا عما تريدون لدى تجار الأعضاء البشرية واتركوا لى ما أملك فهو سرى للغاية.