تواصل صعود منحنى الاتهام بالزندقة فى العصر العباسى، دعم من ذلك أن هذا العصر امتاز بالجرأة فى طرح الأفكار، وكذلك الجرأة فى المعارضة. ولم تعد تهمة الزندقة حينذاك مغلقة على المعارضين أو الخصوم السياسيين، بل توسعت إلى من عداهم من الشعراء، وبعض الكتاب المشاهير، مثل حماد عجرد وبشار بن برد وابن المقفع وغيرهم. كما لم تعد التهمة حاضرة فقط فى الخصومات المذهبية (السنة والشيعة) بل ظهرت فى مواجهة أى نوع من المعارضة السياسية. ظهر ذلك جلياً فى عصر الخليفة العباسى «المهدى». وقد كان الرجل حاكماً من طراز غريب، فهو لم يرض كغيره من الخلفاء بمجرد الرضوخ الظاهرى من جانب الرعية، بل كثيراً ما كان يطالبهم بأن تكون سرائرهم مطيعة له مثل علانيتهم!.
كان «المهدى» يخطب فى الرعية قائلاً، كما يسجل «ابن كثير»: «أيها الناس أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنئكم العافية وتحمدوا العاقبة واخفضوا جناح الطاعة لمن ينشر معدلته فيكم ويطوى ثوب الإصر عنكم، وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة». كان للقاضى شريك بن عبدالله وجهة نظر أخرى فى الخليفة، إذ رآه حاكماً ظالماً لا تصح الصلاة خلفه. أحضر «المهدى» شُريكاً فتكلم معه، ثم قال له فى جملة كلامه: يا ابن الزانية. فقال له «شُريك»: مه مه يا أمير المؤمنين. فلقد كانت صوامة قوامة. فقال له: يا زنديق لأقتلنك. فضحك «شريك» فقال: يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات يعرفون بها: شربهم القهوات واتخاذهم القينات. فأطرق المهدى وخرج شريك من بين يديه.
لم يكن «المهدى» يرضى بأى نوع من أنواع المعارضة السياسية، وهاله أن يتحدث القاضى «شريك» فى عدم صحة الصلاة خلفه، فأحضره وتحاور معه، وإذا بالحوار يتحول إلى «فاصل ردح» يتهم فيه الخليفة شريكاً بالزندقة ويهدده بالقتل ويصفه بـ«ابن الزانية». لم يسكت القاضى ورد على الخليفة بالمثل فاتهمه بالزندقة، واحتج فى ذلك ببعض السلوكيات التى يأتيها الخليفة مثل شرب القهوات واتخاذ القينات (المغنيات). وهو رد عجيب أيضاً، إذ كيف يمكن أن يُتهم شخص بهذه التهمة الخطيرة، ويوصف بأنه مارق عن الدين لتمكن بعض الخصال السيئة منه، ثم كيف يكون الاستماع إلى الغناء مروقاً من الدين؟!.
لم تكن تهمة الزندقة أداة تُستخدم فى ملاعب السياسة وفقط، بل توسعت إلى ما عداها، فرُمى بها مجموعة من أشهر شعراء العصر العباسى، من بينهم على سبيل المثال: حماد عجرد وبشار بن برد. والمطالع لمقدمة «ابن خلدون» يلاحظ أنه وضع بعض هؤلاء الزنادقة -ومن بينهم بشار بن برد- ضمن الشعراء الأعظم فى تاريخ العربية، وذهب إلى أن هؤلاء الشعراء فاقوا فى قدراتهم ومواهبهم شعراء الجاهلية. وقد دفع هؤلاء الشعراء حياتهم ثمناً لهذه التهمة العجيبة التى شاعت فى العصر العباسى. يقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «فى عام 158 هـ قُتل حماد عجرد على الزندقة. وكان شاعراً ماجناً ظريفاً زنديقاً متهماً على الإسلام. وكان بينه وبين بشار بن برد مهاجاة كثيرة، وقد قُتل بشار هذا على الزندقة أيضاً». والمتأمل لهذه الفقرة يجد عجباً حين يلاحظ أن شاعرين كانت بينهما عداوة وهجاء وقدح وذم اتُّهما معاً بالزندقة، ما يعنى أن هذه التهمة أحياناً ما كانت توزع جزافاً.