ذكريات المرحلة الإعدادية لها في قلبى مكانة خاصة وكبيرة ومختلفة، ولما لا فهى بداية اتزان العقل، والثبات، والاعتماد على النفس، والشعور بالذات، والانتقال من مرحلة الطفولة إلى الرشد.
تُعد هذه المرحلة من أفضل فترات حياتى بكل تفاصيلها، بسعادتها وشقائها، بأفراحها وأتراحها، بنجاحاتها وحتى إخفاقاتها، كانت سنواتها الثلاث مليئة بالنجاح والتوفيق، ومُفعمة بالحب والعلم والمعرفة والتطور، كانت سنوات ثمينة فى حياتى، حاولت استغلالها قدر المستطاع، ولكن هذه سُنة الحياة، فالأيام تمرُّ مَر السحاب، وتبقى أحداثها ذكريات تُطاردنا بحُلوِها ومرّها.
تعرفت خلال هذه المرحلة، على مُعلمين جدد، مُختلفون بعض الشئ عن مُعلمينا فى المرحلة الابتدائية، قل أن يجود الزمان بمثلهم، زرعوا فى نفسى، ونفوس جميع زملائى قيم الحب والولاء والانتماء، وكانت لهم جهود مُضنية، فى تشجعينا على حُب العلم، وغرسوا منابع الأخلاق فينا، وحرصوا على تأهيلنا التأهيل المناسب حتى نكون لبنات داعمة فى بناء مُجتمعنا فى مختلف المجالات.
من بين هؤلاء المُعلمين، المُربى الفاضل الخلوق الأستاذ «محمود السيد عكاشة»، موجه مادة الدراسات الاجتماعية بإدارة بيلا التعليمية، بمحافظة كفر الشيخ حالياً، والذى كان يعمل من قبل مُدرساً للمادة ذاتها فى مدرسة بيلا الإعدادية بنات، والتى كُنت أنتمى إليها فى دراستى، وهو بمثابة الأب الروحى لِى، تعرفت عليه قبل التحاقى بالصف الأول الإعدادى، وكانت معرفةٌ خير.
كُنت دائماً أشعر بالخوف الشديد منه قبل معرفتى به، حيث كُنت فى بعض الأحيان أَمرِّ من أمام منزله وهو يُعطى الدروس الخصوصية فى ذلك الوقت لمن يرغب فى ذلك، وكُنت أسمعه وهو يُهذب الطلاب، الذين لا يستذكرون دروسهم جدياً، من خلال ما يسمى بـ«الخرزانة»، والتى كانت فى يده دائماً يشير بها إلى السبورة تارة، وتارة أخرى يجعلها عصاً يُهذب بها العقول المتمردة.
كانت مواعيد الدروس تبدأ لديه عقب انتهاء اليوم الدراسى فى المدرسة، وكان ذلك فى الساعة الثالثة عصراً، فلم أراه يترك المدرسة يوماً واحداً من أجل أن يذهب إلى إعطاء الدروس الخصوصية، فقد كان حريصاً على أن يُعطى لكل ذى حق حقه، وكان دائماً يُحفزنا على الذهاب إلى المدرسة، وعدم الخروج منها إلا فى المواعيد الرسمية، والاهتمام بواجباتنا المدرسية.
كانت مادة الدراسات الاجتماعية بالنسبة لِى مادة مُقدسة، أقوم على حفظها منذ بداية العام الدراسى من أول الكتاب إلى آخره، وكُنت أحبها حُباً جماً، وكُنت أحصل فيها على الدرجات النهائية، على النقيض من بعض الزملاء الذين كانت هذه المادة بالنسبة لهم «بعبع»، وكانوا دائماً يتهربون من حضور الدرس، خوفاً من غضب «الأستاذ محمود»، لعدم تمكنهم من الإجابة على سؤال فى المادة إذا توجه لهم بسؤال من عدمه.
«الأستاذ محمود» أو «المستر» كما تعودت على مناداته حينما كُنت طالباً عنده، وهو الذى تخرج من تحت يده مئات الطلاب منهم الأطباء، والمهندسون، والضباط، والمحامون، والمعلمون .. إلخ، ومع ذلك كان وما زال شديد التواضع، دمث الخلق، فى كل تعاملاته، ودائماً ما يتحدث مع الذين تخرجوا من تحت يديه، ويتواصل معهم، كما يفعل معى حتى الآن.
وضع «مستر محمود»، قواعد صارمة لتأديب الطلاب الذكور، فـ«اللُّبان، والهواتف المحمولة، والحظاظات، والشورتات القصيرة، وقصّات الشعر الغريبة»، كل هذه الأشياء كانت من المحظورات فى حصته، وكم من مرة قام بتعنيف وطرد الكثير من الطلاب، ممن ساروا على الموضة، وأطالوا شعورهم، وارتدوا ما يُسمى بـ«الحظاظات».
كان يعرف كل خبايا طلابه، ويعلم ما أسروا باليل وما جهروا بالنهار، وكأنه كان يمتلك «هدهد سليمان»، ليرشده بكل تحركاتهم، وكُنت أتعجب دائماً بمعرفته بصغائر الأمور، ولا لما فقد كان دائماً يَمر بنفسه على مشروعات ألعاب الكمبيوتر «السيبر»، والمقاهى، بكافة شوارع مدينة بيلا، لمتابعة تحركات طلابه، والويل كل الويل لمن يتواجد فى هذه الأماكن المذكورة، فهى من الممنوعات أيضاً بالنسبة له.
لم تسلم الطالبات أيضاً من التهذيب، والانضباط، فقد كان يُمنع منعاً باتاً دخول أى طالبة إلى حجرة الدرس بـ«اللُّبان»، أو «اللب»، وكان يُعنف الطالبات منهن اللاتى وضعن أكثر من طرحة فوق رؤسهن، وكان ينصح من لا يرتدى الحجاب منهن بارتدائه، والالتزام بتقاليد المجتمع.
كان يتخذ الوسائل التربوية فى عقاب الطلاب، الذين لا يتفاعلون معه أثناء الحصة، فكان أحياناً يستخدم العصا، ولكنه كان يعتمد أكثر على «القرص» أو «شد خصلة من الشعر»، وكان هذا عقابه مع الطلاب الذكور، أما عقابه للطالبات فقد كان يكتفى بتوبيخهن، كما كانت لديه وسيلة أخرى لمن يتقاعس من الطلاب عن حضور الحصة، فكان يجمع من كل طالب يتغيب مبلغ قدره 5 جنيهات، يتم تجميعه حتى إذا صار مبلغاً كبيراً يتم شراء حلويات كثيرة، ويتم توزيعها على الطلاب المتفوقين، فيما يتم توزيع باقى المبلغ على الفقراء والمحتاجين، وكان هذا العقاب يأتى بنتيجة فعالة وسريعة، فلا تجد بعد ذلك طالباً يتأخر مرة واحدة أو يتقاعس عن الذهاب إلى الدرس!
كانت حجرة الدرس فى منزله، وكانت مُمتلئة بصور حكام مصر منذ عهد الفراعنة وحتى الآن، كما كانت هناك بعض الخرائط التى توضح حدود مصر، وبعض دول العالم، وما زالت موجودة عنده حتى هذه اللحظة، كما كان لديه ما تبقى من أثر بعض الطلاب من «الحظاظات والخواتم»، وغيرها، وكانت مُعلقة على السبورة الخاصة بالشرح.
كانت الفرحة الكبرى بالنسبة لِى، حينما كان يذهب معنا «مستر محمود» فى بعض الرحلات التى كانت تُنظمها مدرسة بيلا الإعدادية بنات، وكُنا نشعر دائماً أنا وزملائى بحنانه وعاطفته التى يحرص على إخفائها خلف قوته وصلابته، كُنا نلمس خوفه علينا، وكُنا نستودعه أموالنا خشية أن نفقدها، ونسير معه فى الرحلات أنا وعدد قليل من الأصدقاء، وكان يتجول معنا بصحبة بعض المعلمين، ليكسر بذلك جدار الخوف والرهبة بيننا وبينه.
«الأستاذ محمود»، مُعلم صاحب ضمير، فكم من مرة رفض أن يتقاضى أجراً نظير إعطاءه الدروس الخصوصية لبعض الطلاب الذين لا يستطيعون تحمل نفقة هذه المادة، وكم من مرة أيضاً رد الأجر إلى الطلاب الذين لم يحضروا سوى مرات قليلة، وكان من جانبه يُهاتف أولياء أمورهم ليبلغهم أن أبنائهم يتهربون من الدروس، وأن أموالهم تذهب دون جدوى!
هذا الرجل صاحب فضل كبير عليّ بعد الله عز وجل، ولا يُمكن إنكاره، فكان يُشجعنى، ويُحفزنى دائماً على الاستمرار فى استكمال دراستى، ومواصلة مسيرتى الصحفية، حتى وصلت لما أنا عليه الآن، وسأظل مُدان له بالفضل حتى آخر قطرة فى حبر قلمى.
ما أحوجنا خلال تلك الفترة إلى مُعلمين بضمير «أستاذ محمود»، مُعلمين يكون همهم الأكبر هو فهم الطلاب وليست أموالهم، مُعلمين يمتلكون قدراً من الإنسانية، مُعلمين يتعاملون، ويتكلمون، يُثقون، ويُعلمون، حتى ينصلح حال التعليم، ونكون فى مسار الدول المتقدمة.
فى النهاية.. أدعو الله عز وجل أن يُطيل فى عمر «مستر محمود عكاشة»، وأن يُمتعه بالصحة والعافية، وأن يربط على قلبه، ويُبارك له فى أبنائه، وطلابه، وكل من تخرجوا من تحت يديه، وأن يُرزقنا بمعلمين يكون الضمير فى قلوبهم.. قولوا آمين!