لو أننا حللنا مشهد الليلة التى بدأ فيها مرض النبى صلى الله عليه وسلم فسوف نلاحظ حالة القلق التى بدأت تنتابه بسبب إدراكه لاحتمالية التنازع على الحكم من بعده. وهو ذلك المشهد الذى زار فيه النبى صلى الله عليه وسلم «البقيع»: الأرض التى دُفن بها صحابته الأولون الذين استشهدوا فى سبيل الله. ويذكر صاحب السيرة الحلبية «عن أبى مويهية مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله قال له فى جوف الليل: إنى قد أُمرت أن أستغفِر لأهل البقيع، فانطلق معى، قال: فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى». هكذا قدر النبى صلى الله عليه وسلم المشهد وهو يدخل مرض الموت: مشهد الفتن التى تتدفق كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى.
بعد زيارة البقيع، عاد النبى صلى الله عليه وسلم إلى بيته وبدأ يشعر بالتوعُّك والوجع، وتحكى أم المؤمنين عائشة هذا الموقف قائلة إنها كانت تجد فى رأسها صداعاً عندما قفل النبى عائداً، فدخل عليها وهى تصيح: وارأساه، فرد عليه الصلاة والسلام: بل أنا وارأساه، ثم دخل مع عائشة فى حوار حول الموت. قال لها النبى: ماذا لو متِّ يا عائشة قبلى فأكفنك وأصلى عليك وأستغفر لك؟، فردَّت أم المؤمنين بما معناه: لو أننى متُّ إذاً لجئت ببعض أزواجك وأعرست معها. هذا المشهد الذى تلا زيارة البقيع يدل على أن فكرة موت النبى صلى الله عليه وسلم كانت مطروقة فى أيامه الأخيرة، ولم تكن بعيدة عن أذهان المقربين منه، سواء من أزواجه، أو أهل بيته، أو صحابته المحيطين به. فموته صلى الله عليه وسلم لم يأتِ فجأة بل كان مسبوقاً بالعديد من الشواهد والدلالات.
كان المحيطون بالنبى يعلمون أن النبى يقضى أيامه الأخيرة بينهم. وتشير كتب السيرة إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أراد -حين شعر بدنو الأجل- أن يترك وصية تُجنب المسلمين تلك الفتن التى حذّر منها. وقد وردت قصة الوصية فى إطارين: أولهما إطار خاص بعائشة رضى الله عنها، وثانيهما إطار عام طرح النبى صلى الله عليه وسلم فيه موضوع الوصية أمام الجماعة المؤمنة التى كانت تحيط بفراش مرضه. وفى تقديرى أن موضوع العهد أو الوصية التى أراد أن يحدد فيها النبى مَن يلى الأمر من بعده من الموضوعات التى يكسوها الغموض. فالشيعة يصرون على أنه أراد أن يوصى بالأمر لـ«على»، والسُّنة يقولون إنه أراد أن يعهد به إلى «أبى بكر». لا نستطيع أن نؤكد مدى الدقة أو التلفيق فيما ترويه كتب التراث عن موضوع «الوصية»، لكن المؤكد أن النبى كان يعلم أكثر من غيره أن قيم العروبة وتعصباتها ما زالت غالبة على قيم الإسلام فى النفس العربية، فداخَله القلق على مصير الأمة بعد رحيله إلى خالقه.