ملف النكبة | غنام ..عجوز يصعد درج نزله شابا
ليس المهم أن تكون من الأغلبية فى مجتمع يمثل فيه الفلسطينيون 70% من عدد سكانه، ولا أن يكون لك وطن بديل عن أرض وبيت سلبا منك، ولكن ماذا عن حياة كان من الممكن أن تعيشها؟
رغم اعتزازه بحياته وعمله الحاليين، فإنه لا ينسى أن الاحتلال أخذ حياة كان من الممكن أن يحياها، لربما اختلف أصحابه الذين يعرفهم، أو عمله، وحتى بنت الجيران التى أحبها لأول مرة، وربما تعرف وتزوج من أخرى، لذا يشعر غنام صابر غنام، المسرحى والقاص الفلسطينى الذى يحمل الجنسية الأردنية، أنه يعيش حياة بدل فاقد إلا أنه لا يجد جهات مختصة يستعيد من خلالها هذه الحياة.
"نحن الوحيدون الذين نكتب اسم مدننا الأصلية على شواهد القبور.. هنا يرقد فلان من كفر عانة، لأننا نشعر بالضياع فنثبت ذلك باسم المدن والقرى التى جئنا منها قبل 1948، التى لو متنا فيها لما كتبنا ذلك"، هكذا يعبر غنام عن الغربة الشديدة والمركبة التى يعيشها، والتى فيها أضعاف أضعاف من الألم الذى لا تستطيع السياسة أن تصوره بانتماء الفلسطينى لوطنه وبلده لأن هويته ما تزال تخضع لمحاولات كثيرة للطمث.
فى الأردن منح الفلسطينيون حق الجنسية قبل ولادة غنام بثلاثة أعوام فى 1952 عندما حدثت الوحدة بين الضفة الغربية والشرقية، وعلى الرغم من أنه مع القومية العربية فإنه يرفض ـ فى حالة القضية الفلسطينية ـ قرار الجامعة العربية الذى يمنع ازدواجية الجنسية لدولتين عربيتين، ويرى أنه لا بد من استثناء بحيث يسمح للفلسطينى بحمل جنسية عربية أخرى تسهل عليه أمور حياته إلى جانب الاحتفاظ بجواز سفر فلسطينى يثبت حقه فى الأرض.
لهم نفس الحقوق والواجبات المنصوص عليها فى القوانين والدساتير بالأردن، لكن فى الحقيقة يعاملون كمواطن من الدرجة الثانية فى بعض حقوقهم وكمواطنين كاملين فى الواجبات، لكن غنام وهو الآن فى نهاية عقده السادس لا يهمه الفرص المتساوية للدراسة، للعمل أو السفر، لكن تهمه هويته الفلسطينية التى تحاول إسرائيل إذابتها يوما بعد يوم، وكما يقول ناجى العلى "مسموح للسعودى أن يحب السعودية، وللبنانى أن يحب لبنان، وللمصرى أن يحب مصر أما الفلسطينى الذى يحب فلسطين فهذه تعتبر تهمة تدخلك السجن بالنسبة لدول كثيرة"، وهذا ما حدث مع غنام وقت الأحكام العرفية بالأردن ومنع من السفر لمدة 11عاما بسبب انتمائه لأحد التنظيمات الفلسطينية وكأنه ممنوع عليه أن يحلم بعودة فلسطين بالشكل الذى يراه مناسبا.
ربما قل هذا الآن نتيجة التوسع الديمقراطى فى الوطن العربى عن طريق الثورات، وعن معرفة بعض الحكومات لأهمية إعطاء المواطنين الهامش الديمقراطى للشعور أكثر بالانتماء، ولا يعانون من موانع للسفر أو الكلام لكن لازالت هناك وظائف فى جهات أمنية محظورة على الفلسطينى "يبدو أنه ثبت لهم مع الزمن أن انتماء الفلسطينى إلى قضيته وأرضه أعلى بكثير من انتمائه لأى شىء آخر"، كما يقول غنام.
"لن أكون مسرحيا إذا لم أكن فلسطينيا بامتياز، ولن أكون فلسطينيا إلا إذا كنت مسرحيا جيدا ومتقنا"، بدأ غنام حياته الفنية محاولا التعبير عن ذاته، لم يكن يفكر بشكل خاص فى القضية، لكنه عندما يعود بالذاكرة للوراء يجد أن كل عمل قام به فيه رائحة فلسطين، ودائما ما يقول لأصدقائه "إننى حتى لو تحدثت فى الطبيخ ستكون فلسطين موجودة بشكل أو بآخر".
يذكر زيارته الأخيرة فى العام الماضى لفلسطين ليعرض مسرحيته "عائد إلى حيفا" المأخوذة من نص لغسان كنفانى، وكيف استقبله الناس، لكن الأهم بالنسبة له أنه رأى ابنته المتزوجة فى الأراضى المحتلة بعد فراق سبع سنوات، ورأى زوجها وحفيدته الأولى لأول مرة، ومروقه من مدينته أريحا التى تركها فى عام 1967 وعمره 12سنة وصعد درجات بيته وهو رجل عجوز يحس بمشاعر لا يعرفها إلا من حرم وطنه داعيا أن لا يحرم الله أحدا منه.
إحصائية:
ي قدر عدد الفلسطينيين بالأردن في نهاية سنة 2008 بنحو ثلاثة ملايين و171 ألف نسمة، يشكلون نحو 29.9% من الفلسطينيين في العالم، وغالبيتهم يحملون الجنسية الأردنية.
مدينة أريحا:
تقع على الضفة الغربية من نهر الأردن عند شمال البحر الميت، يبلغ عدد سكانها من العرب أكثر من 20 ألف نسمة تقريبا، إضافة إلى خمسة آلاف لاجئ.
تعتبر مدينة أريحا من أقدم المدن في العالم التي سكنت وما زالت مأهولة بالسكان، بدليل وجود مستعمرات يعود تاريخها إلى 9000 سنة قبل الميلاد.
بعد الحرب العربية على إسرائيل 1948 استولت الأردن على أريحا، ودعت إلى توحيد فلسطين وشرق الأردن، وفى منتصف 1950 أعطت الأردن رسميا سكان الضفة الغربية وأريحا حق المواطنة، ولكن احتلت أريحا والضفة الغربية فى حرب 1967، وكانت أول المدن التى عادت إلى السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، وبها الآن 29 مستوطنة إسرائيلية يسكنها نحو 5110 مستوطنين.